- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
ابراهيم نوار يكتب: هل يصبح توسيع مجموعة «بريكس» لحظة فاصلة في تاريخ العالم؟
ابراهيم نوار يكتب: هل يصبح توسيع مجموعة «بريكس» لحظة فاصلة في تاريخ العالم؟
- 30 أغسطس 2023, 5:46:02 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
من الطبيعي أن يثور جدل كبير حول قرار قمة «بريكس» بدعوة 6 دول جديدة إلى عضويتها، منها ثلاث دول عربية من بينها السعودية، أكبر مصدري النفط في العالم، ودولة قابضة في منطقة القرن الافريقي هي إثيوبيا، وأخرى قابضة في الشرق الأوسط، تطل على أوروبا بحرا، وتمتد أرضها في افريقيا وآسيا، وتمثل حلقة اتصال رئيسية بين طرق الإمدادات اللوجيستية العالمية، هي مصر، إضافة إلى دولة من أمريكا اللاتينية هي الأرجنتين، تمثل واحدا من أكبر منتجي السلع الزراعية في العالم. الجدل، الذي بدأ فور إعلان أسماء الدول المدعوة لعضوية «بريكس»، اعتبارا من أول يناير المقبل، يطرح ثلاثة أسئلة مهمة، تتعلق بالتغيرات الجارية في النظام العالمي، وعلاقة قرار التوسيع بمستقبل المجموعة.
السؤال الأول يركز على دور «بريكس» في آليات تغيير النظام العالمي، من مرحلة الاضطراب الحالية، إلى مرحلة الاستقرار عند مستوى توازن جديد، ومدى قدرتها على تحقيق ذلك.
السؤال الثاني يتعلق بالتكوين الداخلي للمجموعة، وما إذا كان قرار التوسيع يحمل مقومات قوة أم بذور ضعف؟ وهو ما يقرر مدى قدرتها على البقاء والاستمرار، أو تحولها إلى مجرد ناد للكلام.
المقارنة بين مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، ومجموعة «بريكس»، تظهر أن النظام العالمي في طريقه إلى انقسام تاريخي مرحلي، بين «عولمة شمالية» و»عولمة جنوبية»
السؤال الثالث والكبير يرتبط بطبيعة العلاقة بين بريكس ومستقبل النظام العالمي، وما إذا كانت الهوية السياسية للمجموعة، ستؤدي لإشاعة وتكريس نظام «الاستبداد الشرقي»، أو إنها ستصبح آلية لتطوير نظام سياسي ديمقراطي، يتجاوز طغيان الاستبداد الشرقي وفساد النظم الديمقراطية الليبرالية.
وأظن أن الجدل بشأن دلالات توسيع مجموعة «بريكس» مهم جدا في ظروف مرحلة الانتقال العالمي الراهن، التي ستترك بصمتها على صورة وطبيعة النظام العالمي الجديد، وهويته السياسية والاقتصادية. وفي الوقت الذي لا تبدو فيه الولايات المتحدة مؤهلة لقيادة نظام عالمي جديد، خصوصا مع انشغالها بإشعال الحروب وخلق النزاعات يمينا وشمالا، فإن مخاض هذا النظام سيكون محصلة للتفاعلات الجارية، من أجل إقامة نظام متعدد الأطراف، في صورة وطبيعة وهوية جديدة، تختلف عن النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، أو ذلك الذي هندسته الولايات المتحدة، بعد انتصارها على الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة. الجدل الحقيقي إذن ليس حول لماذا لم يتم اختيار الجزائر وفنزويلا ضمن مجموعة الأعضاء الجدد؟ أو لماذا تم اختيار مصر والأرجنتين، وهما دولتان مثقلتان بالديون والتوقعات السياسية المتضاربة، حيث تنتظر كل منهما إجراء انتخابات رئاسية حاسمة، ومع أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة الجزئية مهم لأغراض التحليل في الأجل القصير، فإننا نعتقد أن الانقسام الجيوسياسي على مستوى العالم، هو المحرك الرئيسي وراء اختيار توسيع مجموعة بريكس، بل وراء مبادرة تأسيس المجموعة نفسها. وهو ما يعيدنا إلى أرضية الأسئلة الثلاثة التي طرحناها، كموضوعات للجدل بشأن هوية مجموعة «بريكس»، وعلاقتها بعملية الانتقال العالمي، ومستقبل الديمقراطية في العالم، وهو المستقبل الذي يدور حول محورين رئيسيين هما: إعادة صياغة علاقة الإنسان بالإنسان، وإعادة صياغة علاقة الإنسان بالطبيعة.
النظام العالمي بين التغير والثبات
ينتشر في الولايات المتحدة تيار فكري محافظ، يسود بشكل خاص بين الجمهوريين، والديمقراطيين التقليديين، يقوم على أساس أن الولايات المتحدة هي ظاهرة استثنائية في تاريخ البشرية، وأن ما يطلق عليه «الاستثناء الأمريكي» في التاريخ، يعني تفوق وسمو منظومة القيم الأخلاقية والنظام السياسي الأمريكي على ما دون ذلك في العالم، وهو ما يبرر سياسة الهيمنة، ومحاربة منظومات القيم والأنظمة السياسية الأخرى التي تتعارض معها. وتعرِّف دائرة المعارف البريطانية «الاستثناء الأمريكي» – «American exceptionalism» بأنه «الاعتقاد بأن الولايات المتحدة دولة فريدة في العالم، تسمو على غيرها أخلاقيا وسياسيا، بسبب مقوماتها التاريخية والأيديولوجية والدينية». هذا يعني في المحصلة النهائية أن منظومة القيم الأمريكية، وما يرتبط بها من نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، هي النموذج الأصلح للعالم كله اليوم وغدا وإلى الأبد، وهو ما عبر عنه فرانسيس فوكوياما بمصطلحه الشهير «نهاية التاريخ» بعد سقوط النظام السوفييتي. من هذا المنطلق كان سقوط الاتحاد السوفييتي، بما يمثله من «منظومة القيم الشيوعية»، والنظام الذي يقوم على احتكار الحزب الواحد للسياسة، بداية لحقبة تاريخية قصيرة، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، ارتفع فيها مد تيار «الاستثناء الأمريكي» إلى درجة الاستعداد لإعلان الحرب على الأنظمة التي تخالف أو تهدد الهيمنة الأمريكية. هذه الحقبة اعتبرت أن «تغيير الأنظمة» regime change سياسة مشروعة، وأن توسع حلف الأطلنطي شرقا ضرورة لحماية أوروبا من روسيا الأوتوقراطية، وأن فرض حصار اقتصادي وعسكري على الصين بأساليب العقوبات الاقتصادية وبناء التحالفات العسكرية، مهمة تاريخية واجبة لهزيمة الأوتوقراطية وحماية الديمقراطية الليبرالية الغربية. وفي هذا السياق فإن الإدارة الأمريكية ترى أن النظام العالمي يجب أن يرجع إلى ما كان عليه في بداية التسعينيات. ومن هنا يأتي التحدي التاريخي الذي تجسده مجموعة «بريكس» للهيمنة الأمريكية.
هوية مجموعة بريكس
تتميز مجموعة بريكس منذ نشأتها بأنها ناد سياسي مفتوح لدول الجنوب، الساعية إلى تطوير مصالحها الجيوستراتيجية في العالم، بعيدا عن الهيمنة الأمريكية. بمعنى آخر فإنها تمثل الجنوب العالمي Global South، الذي تعرض لحرمان تاريخي من المشاركة في صنع سياسة العالم، كما تعرض لنهب اقتصادي واسع النطاق، خلال مرحلة التوسع الاستعماري، استمر بأشكال أخرى، من خلال نظام التقسيم الدولي للعمل، الذي تحكمت فيه دول الشمال المهيمنة وشركاتها شبه الاحتكارية العابرة للحدود، لكن مجموعة «بريكس» ليست منظمة اقتصادية، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD التي تضم الدول الصناعية الرأسمالية، ولا هي مثل منظمة أوبك التي تضم الدول المصدرة للنفط، وإنما هي أقرب ما تكون إلى مجموعة الدول السبع الصناعية الغربية الكبرى، مع فارق كبير بين المجموعتين هو أن «بريكس» تبدو حتى الآن «مجموعة مفتوحة» لدول الجنوب النامية، في حين أن مجموعة الدول السبع الصناعية تمثل ناديا حصريا مغلقا للدول الصناعية الأكثر تقدما. تتخذ مجموعة «بريكس» اسمها من الأحرف اللاتينية الأولى للدول الخمس المؤسسة للمجموعة: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا. وهي تمارس نشاطها على طريقة مشابهة لتلك التي تعمل بها مجموعة الدول السبع. وبينما تمثل الولايات المتحدة «قوة الارتكاز» لمجموعة الدول السبع، فإن الصين تعتبر من الناحية العملية «قوة الارتكاز» لمجموعة «بريكس». ومع أن مجموعة الدول السبع الصناعية تم توسيعها مرة واحدة بإضافة كندا عام 1976، فإنها لم تفتح أبوابها خلال الـ 47 عاما الماضية لعضوية جديدة، إلا في عام 1998 عندما ضمت إليها روسيا (في الجانب الاقتصادي فقط دون السياسي)، ثم قررت المجموعة تجميد عضوية روسيا بعد حرب القرم عام 2014. كما أن قرار «بريكس» بضم عدد من الدول يفوق عدد أعضائها الأصليين، يعكس اختلافا جوهريا عن مجموعة الدول السبع، من حيث إنها تسعى لأن تكون ناديا مفتوحا للدول النامية، الساعية إلى إقامة تحالف عالمي جنوبي، يقود عملية تحول لإقامة نظام عالمي جديد. هذا التكوين المفتوح، من شأنه أن يخلق مشكلة في القيادة والإدارة، ولا يضمن فاعلية المجموعة وكفاءة أدائها، ولم تطور «بريكس» حتى الآن، أدوات مؤسسية متنوعة لتنفيذ السياسات التي يتم الاتفاق عليها في مؤتمرات القمة، باستثناء بنك التنمية الجديد، الذي يهدف للقيام بدور شبيه بالدور الذي يلعبه البنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية، في عملية تمويل التنمية. كما أن هناك مؤسسات أو ترتيبات أخرى، يمثل كل منها رئة يمكن أن تتنفس بواسطتها مجموعة «بريكس»، تعتمد جوهريا على مبادرات صينية، من أهمها «مبادرة الطوق والطريق» و «منظمة شنغهاي للتعاون». ويمكن القول بأن هذا يؤكد دور الصين بوصفها «قوة الارتكاز» داخل «بريكس». وتتميز المجموعة بتنوع أنظمتها السياسية والاقتصادية، وتمسكها بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء. وتحرص القيادة الصينية في كل مناسبة على تأكيد التمسك بهذا المبدأ.
المقارنة بين مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، ومجموعة «بريكس»، تظهر أن النظام العالمي في طريقه إلى انقسام تاريخي مرحلي، بين «عولمة شمالية» و «عولمة جنوبية». الأولى تقودها الدول السبع الصناعية الكبرى، والثانية تقودها «بريكس» التي تمثل قوى الجنوب الصاعدة، وأهمها الصين والهند والبرازيل، ومعها السعودية بعد التوسيع الأخير. وللمرة الأولى في التاريخ الحديث لن يكون الجنوب تابعا للشمال، وإنما يتمتع بقيادة مستقلة، ورؤية واضحة لعلاقات دولية متكافئة. وسيكون هذا هو الانقسام الثاني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكنه يختلف جوهريا عن الانقسام الأول، في أن قوته الدافعة هي المصالح المشتركة وليس «الأيديولوجية». ومع ذلك فإن فترة الانتقال من الاضطراب إلى الاستقرار قد تكتسي بسمات حرب باردة جديدة، نشهد وقائعها فعلا ضد روسيا وإيران والصين.