اشتقت إلى وابور أمي

profile
  • clock 10 مايو 2021, 3:49:40 ص
  • eye 921
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في غرفة بدور ثانٍ وأخير..  لمنزل في منطقة أُزيلت من الوجود في القرن الماضي..

 لتتحول إلى مكتبة طفل "لا يرتادها أحد" وحديقة.. يحرص بعض أبناء "عرب المحمدي" على الجلوس فيها.. استعادة لذكريات حياة.. سلبتها رغبة حاكم.

كانت "أمي" بارك الله في عمرها.. ومنحها من الصحة والأعوام عدد ما تدوسه بقدمها من حبات الرمال..

 تحرص جيدا على غلق الشباك الوحيد في غرفتنا بإحكام.. إلا أن ذلك "الإحكام" لم يمنع خيطا رفيعا من الهواء البارد من الدخول كـ"سرسوب" محدثا صفيرا باردا.

إغلاق الشباك جيدا.. والتأكد من إحكامه.. كانت بداية مراسم "الحموم" المقدسة.. يليها إحضار "وابور الجاز"..

 والتأكد من تسليكه بإبرة "الوابور".. تلك الصفيحة الطويلة في طول قلم رصاص.. تنتهي بسن إبرة رفيع لتسليك "عين الوابور".. ثم غلق "محبسه"

 و"ابور الجاز" جيدا.. وتذخيره بدفعات متتالية لـ"مكبسه".. ليشتعل.. بصوته الرخيم المستمر.. الذي يجلب الدفيء والنُعاس.

عقب إشغال "الوابور" يأتي دور "الطشت" ليوضع في منتصف الغرفة.. وأمامه الكرسي الخشبي الصغير تجلس عليه..

 وفي متناول يدها حلة كبيرة و"بستلة" توضع معظمها ممتلئ بالماء.. توضع فوق "الوابور" لتسخن.. وأخرى.. بها ماء بارد تخلطه مع الماء الساخن في الطشت.

كانت والدتي تبدأ في محاولات اقناعنا بـ"خلع" ملابسنا.. فمنذ أسبوع لم تعرف المياه إلى أجسادنا طريقا.. كانت تركز عليّ.. 

لأني لين العريكة.. وأنا الكبير.. فإذا نجحت. فإن أخي الأصغر يكون صيدا سهلا.

تبدأ محاولات الاقناع بكلام معسول.. "يا بني يا حبيبي".. "ربنا يهديك".. لتتحول إلى شكوى.. "حرام عليكم أنا تعبانة".

. "صوتي اتنبح اسمعوا الكلام".. لتصل لمرحلة التحذير.. تعالى يا بن الـ^%** و ^%%& أقلع هدومك.. لتنتهي بهجومها المباغت على جسدي النحيل لتنزع ملابسي..

 التي كانت تشتبك في رأسي "الكبير" وشعري الخشن "الشطاوي" نسبة إلى "شطة" لاعب الكرة الشهير بالنادي الأهلي في السبعينات.. لم تكن صرخاتي وانحشار رأسي يشفعون لي عند "أمي".

كنت وأخي ننتصف "الطشت" ويبدأ "حمومنا" من الأعلى من الرأس.. وصولا للأقدام.. كان الصابون وقتها مثل مدفع قاتل صوب طلقاته نحو عيوني وأخي..

 فكان الصراخ.. وكانت ضربات على الظهر تجبرنا على الصمت.. لتسافر يدها في جسدينا الصغيرين بالليفة الحمراء.. المنزوعة من نخلة "مقتولة".. فلم تكن الليفة البيضاء تجدي نفعا مع أجسادنا الهزيلة.

موجات من صابون الليفة.. يتعقبها إعادة تذخير وتعمير لـ "وابور الجاز" من كباسه.. تنتهي بوضع كل منا "منفصلا" في "بشكير" أبيض..

 يليها إدخالنا في ملابس جديدة.. عملية لا يقاطعها إلا صرخات الألم من "انحشار" الملابس في رأسي الكبير ذي الشعر الخشن.. دون أخي "ناعم الشعر".

كانت بارك الله في عمرها.. بعد أن تضعنا في ملابسنا.. تضعنا على السرير "العواميد" الذي كنا نفخر به على أبناء حارتنا.. فمنه سرير..

 وأسفله خيمة "لعب" وفي عواميده إمكانية لوضع ناموسية.. ثم تغطيني بـ"اللحاف" القطن لنتدفأ جيدا خشية البرد.. وكانت تستجيب لنا فلا تغلق "وابور" الجاز.. 

وكانت تفعل ذلك بمفردها.. ففي تلك المرحلة.. كما هي الآن.. أمنا وأبينا.. كان أبي وقتها.. يكافح في بلاد "الزيت".. ليضمن لنا فقط "حياة".. كريمة كانت.. أو ضنينة.

كان لـ"وابور الجاز" منافع أخرى.. إضافة إلى انضاج الطعام وتسخين المياه.. تدفئة الحجرة.. كان وقوده من أقدم وسائل التجميل في المناطق الشعبية..

 كان "الجاز" يستخدم في تسليك الشعر.. وقتل ما به من "قمل" للجميع.. ما عدا الرجال.. الأطفال والبنات والسيدات والعجائز.. كان منظرا متكررا.

. "وابور جاز" مفتوح "محبسه".. لوضع نقاط من الجاز على شعر سائب.. وقطعة قماش بيضاء.. و"فلاية" ضيقة الأسنان..

 تمر بالرأس لتخرج ضحايا "الجاز" التي تنفذ فيها عملية الإعدام بين ظفري الإبهام.. ما زلت اشتم رائحة "الجاز" في رأسي.

اشتقت إلى "وابور" أمي

التعليقات (0)