التصحر في إسبانيا.. شبح يهدد الزراعة في سلة غذاء أوروبا

profile
  • clock 3 أبريل 2024, 2:58:31 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تقدّر الأمم المتحدة أن 74% من أراضي إسبانيا قد بدأت عملية التصحر بسبب تغير المناخ، بينما من المُحتمل أن تتحول 18% من أراضي إسبانيا إلى صحراء لا مجال لاستصلاحها، وتُعد مناطق المرية وبلنسية والأندلس هي الأكثر عرضةً للخطر، وإذا تُرك الوضع دون تدخل ستتحول غالبية أراضي إسبانيا الجنوبية إلى صحراء بحلول عام 2100.

وتُعَدُّ إسبانيا من كبار مُصدِّري السلع الزراعية إلى أوروبا، إذ تحمل لقب سلة غذاء القارة العجوز، لهذا يجب على مدريد العثور على طرقٍ لحفظ مكانتها كسلة غذاء أوروبا مع التصدي في الوقت ذاته للزحف الصحراوي، كما يقول تقرير لموقع أسباب المتخصص بالتحليلات الاستراتيجية والجيوسياسية.  

تسارع التصحر في إسبانيا وانخفاض مخزون المياه

الماء شريان حياة الحضارات لكن وجود هذا المورد الأساسي أصبح محدوداً بشكلٍ متزايد في ظل التغيّر المناخي المتسارع، أسفر التوجه الإسباني نحو المحيط الأطلسي بعد عام 1492 عن تمويل رحلات بحرية وبناء إمبراطورية شاسعة في أعالي البحار. لكن أيام المجد الإسباني ولّت وانتهت وصارت أهدافها الجيوسياسية المعاصرة أكثر تواضعاً، حيث قلّ التركيز على الغزو والتوسع وزاد الاهتمام بالقضايا الأقرب إلى الوطن.

ربما تُعَدُّ أراضي إسبانيا اليوم في مأمن من جيوش الغزاة؛ لكن مدريد تواجه الآن عدواً خبيثاً آخر وهو شبح التصحُّر الزاحف. إذ إن الجفاف، والحرارة، وإزالة الغابات، وقلة هطول الأمطار تُغير شكل جغرافية إسبانيا وتُحوِّلها إلى أرض قاحلة.

لم تكن مواسم الشتاء والربيع الماضية لطيفةً على إسبانيا مطلقاً؛ حيث كان أبريل الماضي هو الأكثر جفافاً منذ بدء تسجيل درجات الحرارة عام 1961، لكن الجفاف وموجة الحر هما جزء من تغيير أكبر. إذ بدأت المياه تنفد في المناطق الداخلية الإسبانية رغم أن المحيطات المفتوحة تحاوطها.

1- انخفض مخزون المياه المتوافر في بلنسية ومرسية وقشتالة والمنشف وإكستريمادورا إلى أقل من 40% من السعة الإجمالية. 
2- في كاتالونيا والأندلس انخفضت احتياطيات الماء إلى نحو 25% من السعة الإجمالية.

والآن، يؤثر هذا التغيير على قطاع الزراعة ويتوقع المزارعون تسجيل أضعف مواسم حصادهم منذ عقود.

حدود النموذج الزراعي الإسباني

يقول موقع أسباب إنه من المتوقع ألا تنجو سوى المحاصيل القريبة من الساحل أو محطات تحلية المياه فحسب بينما تواجه بقية أراضي البلاد تحدياً عصيباً، لكن ممارسات المزارعين الإسبان تتحمل جزءاً من المسؤولية أيضاً. إذ يقوم النموذج الزراعي الإسباني على فرضية إمدادات الماء اللامحدودة.

يُشكِّل القطاع الزراعي الإسباني نحو 80% من استهلاك المياه العذبة في البلاد وقد كانت عائدات الاستثمار في القطاع كبيرة وتتمثل أكبر الصادرات الإسبانية من حيث القيمة في النبيذ وزيت الزيتون، بينما تتصدر محاصيل الكرمة القائمة من حيث الكمية المُنتجة بـ39 مليون طن، تليها الحبوب.

وتُدِرُّ هذه التجارة الزراعية الخارجية المزدهرة على إسبانيا فائضاً يُقدر بأكثر من 17 مليار يورو كما تُقلل حاجة وسط أوروبا للواردات من خارج منطقة الاتحاد الأوروبي، وخاصةً فيما يتعلق بالفواكه الاستوائية التي يصعب زراعتها.

وقد وصل حجم صادرات القطاع الزراعي الإسباني إلى أكثر من 50 مليار يورو إجمالاً في 2021 ولا شك أن إطعام قارةٍ بأكملها هي تجارة ضخمة لكن كل شيء له ثمنه ولا تدفع إسبانيا ذلك الثمن باليورو بل تدفعه بتدهور تربتها.

وبالنظر من الفضاء:

– ستبدو البرتغال المجاورة أكثر خضرةً بشكل واضح بفضل غياب الزراعة واسعة النطاق. 
– تبدو بعض أجزاء إسبانيا وكأنها جزر بنية وسط بحر أخضر اللون. 
وتتجلى صحة ذلك في صحراء طبرنة بالمرية التي تُعَدُّ الصحراء الحارة الوحيدة في أوروبا.

بناء السدود وتطوير البنية التحتية في إسبانيا

يؤدي الجفاف مع الحرارة إلى مفاقمة عجز المياه الذي تعانيه إسبانيا الآن. ولا عجب في أن المزارعين سيصبحون أول المتضررين من تداعيات نقص الماء، ولهذا بدأت مدريد في التصدي لأزمة نقص الماء منذ الخمسينيات عبر تطوير البنية التحتية.

– شيّدت مئات السدود وأنظمة تحويل الماء لبناء شبكة توزيع متطورة. 
– تمتلك إسبانيا، أكثر من أي دولة أوروبية أخرى، نحو 1,200 سد وخزان صناعي. 
– تقع تلك المرافق بصفةٍ أساسية في الجنوب حيث تتواجد المناطق الزراعية بكثافةٍ أكبر.

في المرية مثلاً، يظهر بحر من المظلات البلاستيكية الممتدة فوق المناظر الطبيعية وهي صوبات زراعية تكفي لتغطية أكثر من 16,000 ملعب كرة قدم، والموقع ضخمٌ لدرجة أنه يظهر من الفضاء الخارجي.

منطقة المرية

وأسهمت الصوبات الزراعية في تحويل المرية إلى واحدة من أكثر المناطق الزراعية إنتاجاً في أوروبا؛ لكنها تفرض تحديات بيئية كبيرة، إذ إن أساليب الزراعة المكثفة المُستخدمة هنا تعتمد بشدة على السقاية بمياه الخزانات الجوفية.

– يؤدي ذلك إلى استنزاف المياه الجوفية داخل منطقة معرضة للجفاف وندرة الماء بالفعل.
– استخدام الأغطية البلاستيكية، والمبيدات الحشرية، والأسمدة أثار المخاوف من تدهور التربة وتلوث الماء.

وتساهم كل صوبة في نمو محصول نوع واحد سنوياً، لكن كل عام زراعي يُسفر عن تدهور التربة واستنزاف المياه الجوفية بسرعةٍ أكبر وتساهم كل هذه العوامل في التصحر بنهاية المطاف، ولا شك أن الزراعة الصناعية في المرية تُعَدُّ معجزة اقتصادية، لكنها تظل كابوساً بيئياً رغم ذلك.

حوض نهر إيبرو

وفي الوقت ذاته بشمال إسبانيا، يواجه حوض نهر إيبرو عدة تعقيدات ناجمة عن سوء الإدارة، حيث يُعد نهر إيبرو أحد الأنهار الرئيسية في إسبانيا ويتدفق نحو الجنوب الشرقي لأكثر من 900 كم، قبل أن يصب في البحر المتوسط.

– يُمثل حوض النهر منظومة ماء حيوية تدعم مجموعة واسعة من الأنشطة الاقتصادية. 
– يشمل الزراعة والصناعة وتوليد الطاقة الكهرومائية. 
– معدل هطول الأمطار انخفض في السنوات الأخيرة بينما ارتفع الاستهلاك الزراعي بشكلٍ مطرد. 
وقد تراجع تدفق نهر إيبرو اليوم لدرجة أن بعض أنواع الحياة البرية اختفت من المنطقة بالكامل وصارت الموائل الطبيعية معرضة للضغوط وإذا لم يطرأ أي تغيير على نظام إدارة الماء في إسبانيا فسوف يجف نهر إيبرو العظيم بالكامل قريباً.

منطقة المنشف

تعاني طبقات المياه الجوفية المحلية في منطقة المنشف من استنزاف لا مجال لعلاجه؛ حيث تشتهر المنطقة بنشاطها الزراعي الذي يضم مزارع الكرم وبساتين الزيتون؛ لكن الاستخراج المفرط للمياه الجوفية من أجل الري أسفر عن انخفاض منسوب الماء.

وهذا يهدد الاستدامة طويلة الأجل للنظام البيئي الطبيعي والإنتاج الزراعي على حدٍ سواء، كما يُشكِّل استنزاف المياه الجوفية خطراً على جودة المياه المتبقية أيضاً؛ حيث سيجعلها أكثر عرضةً للتلوث، ولا خلاف على جدية المخاطر طويلة الأجل بالنسبة لإسبانيا، لهذا تحتاج البلاد إلى نهج أكثر استدامة لإدارة الماء، وتتمثل المشكلة الأساسية في أن البنية التحتية الزراعية للبلاد مبنية على فرضية وجود إمدادات مياه لا محدودة، ودفعت تلك البنية التحتية بإسبانيا إلى الاستمرار في السحب من احتياطياتها بهدف دعم صناعة مصممة لإطعام بقية أوروبا.

وقد فعلت إسبانيا ذلك لعقود طويلة؛ لكن الأسوأ من ذلك هو أنها لم تمارس الاعتدال، ومع بدء تشكُّل أزمة تغير المناخ الآن لم يعد النموذج الزراعي الصناعي الإسباني مستداماً، حيث إن المناطق التي تشهد زراعة الفاكهة والخضراوات الإسبانية هي الأكثر عرضةً لخطر التصحر، وهذا يشمل مقاطعة المرية، وكذلك مرسية وبلنسية والأندلس.

إذ يأتي معدل هطول الأمطار السنوي أقل من المتوقع بنسبة 28% منذ عدة سنوات.

– ترزح البلاد الآن تحت وطأة الجفاف الشديد. 
– الحرارة القياسية تفرض ضغطاً متواصلاً أكبر على الموارد المائية المحدودة في إسبانيا. 
– وصل الأمر بمركز أبحاث التصحر في بلنسية إلى الجدال بأن جزءاً كبيراً من إسبانيا سيتحول إلى صحراء في غضون بضع سنوات. 
وتقدر الأمم المتحدة في الوقت ذاته أن نحو 74% من أراضي إسبانيا قد بدأت عملية التصحر بالفعل.

أسباب التصحر في إسبانيا ليست المناخ فقط

يقول موقع أسباب٬ في الواقع، ظهر التصحر في إيبيريا قبل تغير المناخ الناجم عن الانبعاثات؛ حيث كانت الغابات المليئة بأشجار الصنوبر البحري تغطي أغلب أراضي شبه الجزيرة تاريخياً، وقد خففت الغابات الشجرية مترامية الأطراف معدلات التصحر وذلك عن طريق تثبيت التربة ومنع التآكل، إذ سحبت الرطوبة من الهواء، بينما عمل الغطاء النباتي على تخفيف أشعة الشمس الواردة وحرارة الأرض.

لكن النشاط البشري غيّر كل ذلك كما هو حال غالبية الظواهر البيئية.

– زاد الطلب على الخشب بمرور العصور من أجل البناء والتدفئة
– زاد الطلب على الفحم من أجل صهر المعادن. 
– حلّت أشجار البلوط الأخضر محل الصنوبر البحري تدريجياً. 
– خلال العصور الوسطى اتسم التصحر بطابعٍ عسكري وذلك بالتزامن مع سعي القوات المسيحية لدحر ثم طرد الحضارة الإسلامية من إيبيريا. 
– مع مطلع العصر الحديث تسارعت وتيرة استغلال أخشاب الأشجار لبناء السفن بالتزامن مع سعي إسبانيا لاستكشاف المحيط الأطلسي. 
– جرت حينها خصخصة الغابات وحصادها بشكل ممنهج لتلبية احتياجات الأساطيل الإسبانية الآخذة في الزيادة. 
– بمرور القرون المتتالية، أسفرت تلك العوامل عن استنزاف الغابات المحلية تدريجياً وتعطيل النظام البيئي.

أي إن إسبانيا قد مرّت بفترة تحول إلى الأسوأ من قبل؛ حيث ضحت بغاباتها الأصلية القديمة في سبيل بناء الإمبراطورية. لكن تلك الممارسات الزراعية غير المستدامة استمرت حتى وقتنا الحاضر، وعند النظر من هذه الزاوية، سنجد أن تغيُّر المناخ ليس السبب الوحيد للتصحر، لكنه كان عاملاً ساهم في تكبير أثر التصحر ومضاعفته.

إذ إن زيادة حالات الجفاف، ودرجات الحرارة الأكثر سخونة، والأنماط المناخية الأكثر تطرفاً زادت الضغط على المناطق التي تعاني ندرة المياه، ولهذا تعاني الأنظمة البيئية من أجل التعافي مما يُسرع زحف المناطق الصحراوية.

كما يأتي استنزاف المياه الجوفية وتسرب مياه البحر ليساهما في ندرة المياه أيضاً؛ حيث أسفر ارتفاع منسوب البحر والعواصف وسوء إدارة الموارد عن زيادة ملوحة التربة الساحلية، فضلاً عن تقليل المياه المتوافرة للزراعة.

التداعيات والحلول

لا شك أن هذه الأمور لها الكثير من التداعيات، وأولها أن التصحر يزيد مخاطر حرائق الغابات.

– تعرضت إسبانيا لأكبر عدد من حرائق الغابات في أوروبا عام 2022 بعد أن سجلت أكثر من 500 حالة بحسب منظومة المعلومات الأوروبية لحرائق الغابات. 
– تؤدي المناطق التي ضربتها حرائق الغابات إلى تسريع ونشر عملية التصحر بعدها. 
– أدى انخفاض معدل هطول الأمطار في الشتاء إلى حالة جفاف شديدة؛ ما دفع الحكومة إلى تمرير حزمة طوارئ بقيمة 2.2 مليار يورو لمساعدة المزارعين وتشييد بُنى تحتية مائية جديدة.

لكن يجب على إسبانيا فعل الكثير إذا كانت تريد أن تظل سلة خبز أوروبا. حيث يجب على المسؤولين الإسبان التكيُّف سريعاً مع العالم الجديد الذي سيجلبه تغيُّر المناخ.

1- يجب إصلاح منظومة إدارة الماء بشكل كامل. 
2- يتعيّن تطوير طرق لاستخدام وإعادة استخدام الماء، بما في ذلك مياه الصرف الصحي. 
3- استخدام المياه بشكلٍ مدروس أكثر.

ومن المؤكد أن إسبانيا اتخذت خطوات لمكافحة التصحر ولا تقف عاجزةً لمشاهدة الصحراء وهي تغزو الأرض. فقد شهد القرن الماضي تسارع وتيرة مبادرات إعادة التشجير وممارسات الأراضي المستدامة، وركزت تلك الجهود أول الأمر على منع الانهيارات الأرضية بشكلٍ أساسي وخير مثالٍ على ذلك هو مشروع إعادة تشجير سييرا دي إسبونا في مرسية والذي جرى تنفيذه بين عامي 1901 و1939.

وشهد عهد فرانكو مضاعفة تلك الجهود باعتبارها مشروعات مؤقتة لتخفيف البطالة، ونجحت تلك الجهود في إعادة تشجير نحو 2.9 مليون هكتار من الغابات الإسبانية أي ما يعادل أكثر من 11% من إجمالي مساحة البلاد.

لكن المشكلة تكمُن في أن تلك المشروعات لم تُنفّذ بأسلوب يُراعي التوازن البيئي، فقد هيمنت الأنواع غير المحلية مثل الصنوبر والأوكالبتوس على جهود إعادة التشجير، كما أن تشييد مزارع أحادية ضخمة من تلك الأشجار زاد خطر اندلاع حرائق الغابات، وعلى الرغم من تلك المشكلات تُشير بعض التقارير إلى أن مبادرات إعادة التشجير وحفظ الغابات قد زادت الغطاء الغابي في السنوات الأخيرة.

وأظهرت ابتكارات مثل شِباك "حاصد الضباب" قدرتها الواعدة على حصاد الضباب من الهواء لدعم النمو النباتي، وتحتاج إسبانيا إلى تبني هذه النوعية من الابتكارات على نطاق واسع من أجل تصحيح عجزها المائي ووقف الزحف الصحراوي.

التعليقات (0)