- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
الحارث طه يكتب: أدب الحرب.. السلطة المطلقة مفسدة مطلقة
الحارث طه يكتب: أدب الحرب.. السلطة المطلقة مفسدة مطلقة
- 3 ديسمبر 2023, 3:13:51 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم تكن تلك الأيام التي عاشتها لندن كبقية الأيام. في تاريخها سلسلة تفجيرات في قلب العاصمة اللندنية وتحديدا محطة القطارات الرئيسة ثم تليها تفجير هو الأعنف والأقوى بفندق كانت مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تنزل به. وكان أشبه بمحاولة اغتيال سياسي للمرأة الحديدة كما كانوا يلقبونها. توقفت الحياة وتحرك الخوف بين عموم الشعب البريطاني. استنفار عال في جميع أجهزة الدولة والجيش وجهاز المخابرات البريطانية الأكثر ذكائها ، وسلطة عبر التاريخ وبدأت التحقيقات للوصول إلى الفاعل.
الفاعل جهة معروفة لدى الجميع حتى لجهاز المخابرات ولتاتشر نفسها. إنه الجيش الإيرلندي صاحب الكلمة والسيطرة على مفاصل الحياة في لندن يحرك كيفما يشاء من خلال تفجيرات إضافية أو تهديدات أكبر مما حصل في تلك الليلة.
ذهبت كل التحليلات والعيون إلى جيش بريطانية العظيمة للثأر من تلك المنظمة التي تدعان جيش الجمهوري الإيرلندي (IRA)، وضربها في عقر دارها، وتنكيل بعناصرها، وقصف مناطق تواجدها وحرق الأرض ومن عليها.
نعم أنها بريطانية العظمى، الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، كيف لا تثار لكرامتها، بدأت التجهيزات والاتصالات واستنفرت كل الأجهزة المعنية حتى وصلت درجة الطوارئ إلى اللون الأحمر، وصلت إلى ساعة الصفر، وهنا رن هاتف جيري آدمز الزعيم السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي، وطلب منه الحضور لاجتماع لا يقبل التأخير، هرع الرجل على عجل. كان بيل كلنتون الرئيس الأمريكي ذا الأصول الإيرلندية على الهاتف يناقش الاجتماع مع تاتشر جيري أدمس مجريات الأزمة الحاصلة بين الطرفين، حكومة لندن وحزب الشن فن الممثل السياسة للجيش الجمهوري.
في ذلك اليوم كان الحدث الأكبر والأضخم في تاريخ إيرلندا، وهو الدخول في مباحثات طويلة بين الطرفين للوصول لسلام دائما، وإعطاء أيرلندا حكما ذاتيا، يكون حزب الشين فيه صاحب الصلاحيات المطلقة على إقليم إيرلندا، والجيش الجمهوري صاحب حماية ذلك الإقليم، ويعود الحكم المركزي إلى حكومة جلالة الملكة في لندن.
إنها الحكمة ولا شيء غير الحكمة، لم تقم تاتشر المرأة الحديدية في قصف البشر والحجر ولم تسر الطائرات العسكرية بثأر أعمى، ولم تأمر الجيش بسياسة الأرض المحروقة، ولم تنكل بالشعب والأطفال والنساء الأإرلنديين، أخذت على نفسها حكم التاريخ كيف سيذكرها بحكمة رئيس الوزارة أعظم دولة عبر التاريخ.
تلك الدولة الأعظم- وفرسان الطاولة المستديرة لم يكونوا يوما مجموعة من الانتهازيين، ولم ينتموا يوما إلى عصابة تمارس القتل، ولا التشريد. مع عدم إنكار تاريخ بريطانية الاستعماري الطويل ذي الجوانب المظلمة والمضيئة أحيانا.
وصلنا الي هذا اليوم، نفس السيناريو يتكرر، هجوم يعد هو الأكبر منذ عام ١٩٦٧، السيطرة على قاعدة عسكرية، وأسر جنرالات، وعدة جنود واغتنام مجموعة كبيرة من الآليات العسكرية، وضرب أهداف عسكرية في عدة مناطق داخل سيطرة دولة الاحتلال الإسرائيلي، من قبل مجموعة تقاوم ذلك الاستعمار، وتسعى إلى حقوقها التاريخية مثلها مثل الجيش الأيرلندي صاحب المرجعية المسيحية الكاثوليكية. وهنا كتائب القسام ذات المرجعية الإسلامية وتم صبغها بالإرهاب والتي لم تصبغ به المجموعات الإيرلندية.
لم تكن تلك الحكمة موجودة عندما بدأت القوات الأميريكية باحتلال أفغانستان وجيشت الدنيا لمواجهة تنظيم القاعدة إثر أحداث ١١ سبتمبر المشكوك في مصداقيتها، فقبيل الغزو بيوم واحد بتاريخ ١٠ سبتمبر خرج وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد بمؤتمر صحفي يقول فيها إن هناك ٢,٨ ترليون دولار قد اختفت من ميزانه البنتاغون، وفي اليوم الثاني نسيا العالم كلها تلك التصريحات. ونسى العالم ذلك التصريح، وانخرط في متابعة الحرب التي كلفت الخزانة الأمريكية الكثير من المليارات، فيما كلف الوصول إلى أسامة بن لللادن الادراة الأميريكية ١٢ مليار دولار من عمليات استخبارات، وتخصيص فرق عسكرية مدربة للتعامل مع مناطق الجبلية، التي يختبئ فيها المقاتلون الأفغان والعرب.
ويظل السؤال المطروح دوما هل خرج الجيش الأمريكي منتصرا من أفغانستان؟ لقد كان خروج الجيش الأمريكي أكبر نتيجة لانتصاره أم خسارته.
تغيرت جغرافية المكان والحرب لكن طريقة التعامل واحدة وآليات العمل العسكري كذلك كانت واحدة من أفغانستان إلى غزة وجهان لعملة واحدة، الأفكار الانتقامية بنفس الأسلوب، التدمير والقصف وسياسات الأرض المحروقة نفسها. نفس الطائرات، ونفس الصواريخ والاختلاف كان إسرائيل وغزة بدلا من أمريكا وأفغانستان أو العراق. وبنفس الحكمة، قصفت ودمرت مدنا وبيوتا وأحياء ومستشفيات ومدارس. وقتل الأطفال والنساء، وهٌجر أهلها.
هنا بصمة المقاومة كانت حاضرة وبقوة. فالقوة هنا (أدب الحرب). كان هناك الكثير من الأسرى من عسكريين ومدنيين وطوال فترة القصف العنيف، كانت أفراد المقاومة تتعامل مع الأسرى بشكل لافت للنظر، أن كان بتأمين سلامتهم أو حمايتهم أو توفير الغذاء والدواء لكبار السن منهم، وكانت أول عملية إفراج كبادرة حسن نية من قبل المقاومة سيدات طاعنات بالعمر، أخذنا يرفعون أيديهم مودعين من آسريهم، وابتسامتهم تعلو وجههن. ثم أتت الهدنة والإفراج الثاني عن الأسرى المدنيين من الأطفال ونساء وأجانب قبل أن يصلوا إلي سيارات الصليب الأحمر يلتفتون إلي أفراد المقاومة يلوحون لهم بالوداع، ولسان حالهم أنهم لن ينسوا تلك الأيام من حسن المعاملة.
حتى توقفت عند فتاه تحمل كلبها وتسير إلى سيارة الصليب الأحمر وهي تلعب مع كلبها، وتتحدث مع أفراد المقاومة، وتضحك معهم، مداعبين كلبتها، وترفع يدها مودعة من تعبوا لحمياتهم من قصف الطائرات والصواريخ وكأنها أمانه ثقيلة تم إعادتها إلى أهلها بكل أمانة. عادوا الأسرى إلى ذوويهم يسردون ما حصل معهم من أول يوم حتى اللحظات الأخيرة من إطلاق سراحهم. أنها ذكريات لن تنسى أبداً من اختلاط المشاعر وتناقضاتها. من خوف إلى أمانة حتى قبل أن يخرجوا. كانوا آمنين، كانوا يرون الناس تجوع، وهم لا يجوعون، يرون أهل غزة عطشى وهم لا يعطشون، يشاهدون الناس تقتل وهم آمنون.
كل أولئك الأسرى الذين حررتهم المقاومة الفلسطينية ليس من الأسر بل من سيطرة الصهيونية ورعاياها النازية. سيكونون ناقلين صادقين للمجتمع الإسرائيلي والعالمي حول المعاملة التي حظوا بها. سيكونون كاشفين على كذب دولة الاحتلال بشأنهم وعن ترويج الأكاذيب التي نشرها الاحتلال الصهيوني والتي بررت لهم ألوك الوحشية التي تعاملوا بها ضد الفلسطينيين في غزة، سيفضحون تبرير الصهاينة لأنفسهم كل القتل والدمار والقصف العنيف ضد الفلسطينيين وضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين وطرق تعاملهم معهم.
تلك المعاملة المتسامحة التي قامت بها المقاومة تجاه الأسرى الإسرائيليين نقلت عبر الكاميرات وعبر شهادات من استطاع الحديث منهم للعالم. تلك الأخلاقيات والآداب ستغير نظرة العالم لتلك المجموعة التي وصفت بأنها إرهابية ووحوش وحيوانات كما وصفوهم القادة الصهاينة.
ذلك التسامح نٌقل إلى المجتمع الأوروبي والأمريكي والإسرائيلي الذي كان يحمل نظرة الإرهاب لتلك المجموعة والوحوش المفترسة والحيوانات البشرية كما وصفها المسؤولون اليهود للعالم.
هل يعقل أن تكون الأخلاق جزءا من التكوين البشري عندما يخلق ويسعى إلى هدمها واغتصابها بنفسه كيف يعقل ذلك وبنفس الوقت فئة أخرى ترعاها حتى قبل غرسها وتنقلها على الهواء مثل حبات الطلع ويقول قائل لا يملكون إلا سمات حيوانية وكان أكبر شاهد على أخلاقهم كلبا يلعب مع أسره وصاحبتها التي كانت تشاركه الأسر.
أنه أدب الحرب وحدود ممارستها ليست محكومة بقانون أو دستور، إنها الأخلاق على مر العصور، لكن حدود الطغاة مقيدة بصبر من ظلموه.