السفير معصوم مرزوق يكتب : من هنا نبدأ

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 25 ديسمبر 2021, 3:05:21 م
  • eye 911
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ربما ينبغي ألا نرهق عقولنا في هذه المرحلة من التيه بحثا عما نريد ، إكتفاء بمحاولة تحديد ما الذي لا نريد ..
بدلا من طرح الخيارات المختلف عليها حول تصورات المستقبل المختلفة ، قد يجدر بنا جمع ما يمكن أن نتوافق عليه كمجتمع .


وبدون الدخول في تفاصيل لن تغني شيئا ، من الواضح أن أغلب قوي المجتمع ( إن لم يكن كلها ) ترفض الإستبداد والظلم والقبح والكذب والنفاق ، ولا بد أنها أيضا يمكن أن تتوافق  حول عناصر إنتقالية ذات طبيعة مؤقتة ريثما يثمر حوار جدي عن الإقتراب من تخوم ما نريد ، أو ما يمكن أن نريد .


القفز أو توهم القفز فوق معطيات الواقع والزمن ليس إلا نوع من الوهم ، ولا يزيد عن قفز في المكان نفسه ، فهو وهم يرفض رؤية حقيقة أن الإنتقال بمجتمع من مكان إلي آخر ومن مكانة إلي أخري ( إيجابا أو سلبا ) يشتمل بالحتم والضرورة علي فكرة التدرج والمرحلية وبشكل حسابي دقيق ..
أو بمعني آخر ، لا يوجد شئ اسمه ( إحراق المراحل ) ، لأن كل مرحلة هي في التحليل الأخير مسافة وزمن وجهد ، يستحيل علي تجربة بشرية أن تخترق هذه الحواجز دون خسائر فادحة ..
لقد حاول محمد علي باشا ذلك ظنا منه أن جيشا كبيرا جيد التسليح يكفي لبناء إمبراطوريته ، متغافلا عن حقائق المجتمع المصري في عصره وأبعاد الوضع الدولي ، وكلاهما كان يتطلب بناء تدريجي قد يستغرق عشرات السنين .. ولقد وقع الخديو إسماعيل في نفس الخطأ ولكن من زاوية أخري ، حيث تصور أن العمارة المرصعة بمظاهر وقشور العصر تكفي كي يقف كتفا بكتف مع أباطرة وملوك أوروبا ، فكأن الأول كان يريد الإقتحام بالسيف في ميادين القتال ، والثاني بالجيتار في ساحة الأوبرا ! .


وبنفس المقياس " إحراق المراحل" ، وقع عبد الناصر في الخطأ وإن كان أكثر إدراكا ووعيا ، فقد كان الرجل يمتلك ملكات شخصية ، ومكتسبة كضابط أركان حرب تتيح له إدراك " المعضلة " التي حاول تفادي آثارها السلبية ، إلا أن حماسه وثوريته ، وطبيعة النظام الديكتاتوري كان يدفع بإتجاه عدم الإلتفات إلي مخاطر عدم التدرج ، وأهمية التمهيد الصبور لبناء الإنسان المصري أولا .. وهكذا قيل " أنها كانت إشتراكية بلا إشتراكيين " ، و " عدالة توزيع الفقر " ، و " دولة المخابرات " ..إلخ ، والتي أدت في النهاية إلي النتيجة المنطقية التي تمثلت في هزيمة 1967 العسكرية .


قد   يصعب فهم ما تقدم أو التسليم به علي إعتبار أن العصر الحالي يمتلك أدوات أتاحتها التكنولوجيا تسمح بالفعل " حرق المراحل " والقفز عبر الزمن بأشكال لا تتحدي العلم أو تخترق طبيعة الأشياء ، وأن التحدي الماثل هو " اللحاق بالعصر " ولن يتسني مواجهة هذا التحدي بنفس أدوات وأفكار عصور مضت ..


ولكن .. هل يمكن لأي مجتمع أن يتقدم خطوة للأمام دون أن يتسلح بالعلم ؟ ، العلم الحقيقي الذي ينير العقول ويزيح الظلام عن الإدراك والوعي ..هل يستطيع إقتصاد مريض ، يفتقد إلي فلسفة حاكمة قابلة للتطبيق أن يتحمل أسلوب " الصدمات الكهربائية " من أجل " حرق المراحل " ؟.. بل هل يمكن أن يتحرك المجتمع دون أن يتوفر له مناخ الإستقرار والأمن والحرية بشكل يسمح بالمبادرة والإبتكار وممارسة النقد الذاتي البناء والضروري ، كعناصر لا غني عنها للإنتقال من وضع الجمود إلي وضع الحركة ؟.


وعلي هذا المنوال يمكن أن نطرح أسئلة كثيرة، تعيدنا إلي مقدمة هذا المقال :" لماذا نصر علي البحث عما نريد في هذه المرحلة ، ألا يكفي بذل الجهد في التعرف علي ما لا نريد .." ،  فمن المؤكد أن لا أحد يريد الجهل أو المرض أو الظلم أو القبح ..إلخ ، فلتكن خطة التوافق حول ما لا نريد تمهيدا ضروريا للوصول تدريجيا إلي ما نريد ...


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)