- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
الشعب الفلسطيني ونزع الإنسانية.. الاستراتيجية القديمة المتجددة لإسرائيل
الشعب الفلسطيني ونزع الإنسانية.. الاستراتيجية القديمة المتجددة لإسرائيل
- 8 سبتمبر 2023, 1:10:39 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بقامته القصيرة وأسنانه التي تعرضت لعملية التجريف المتعمد لتصبح مدببة مثل الأنياب، كما تقتضي طقوس قبيلته مبوتي، كان الشاب الكونغولي أوتا بينغا يمثل فرصة استثمارية مناسبة لرجل أعمال أمريكي، تحصل عليه بعد مفاوضة قصيرة مع تجار عبيد محليين، ليتوجه به إلى معرض في لويزيانا ليعرض في حديقة حيوانات بشرية أمام المتفرجين. الشاب الذي توالت الصدمات في حياته بعد فناء معظم أبناء قريته، وكامل أسرته، على يد قوات متحالفة مع المستعمر البلجيكي، ووصلت إلى تحويله إلى مادة فرجة في المعرض الأمريكي سنة 1904 بقي يعاني حالة اكتئابية وصلت به إلى الانتحار سنة 2014 برصاصة وجهها إلى قلبه مباشرة.
هذه الحالة من التجريد من الإنسانية Dehumanizing بقيت استراتيجية منهجية اتبعتها القوى الاستعمارية في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أن التحولات العالمية وصعود أفكار حقوق الإنسان دفعت الدول الأوروبية المتورطة في الصراع الاستعماري إلى التنكر لهذه الحقبة، أو إعادة إنتاجها بطريقة أقل فجاجة.
تبقى إسرائيل، وبصورة استثنائية، البلد الوحيد الذي ينتمي أو يدعي الانتماء إلى الثقافة الغربية، وما زال يمارس أعمالاً تستهدف النيل من القيمة الإنسانية بصورة مباشرة، ويتأتى المبرر من داخل ثقافة انعزالية على قدر من الخطورة، لم يكن كافياً للأوروبيين كنسها تحت السجادة، ولكنهم كنسوها إلى خارج القارة، إلى فلسطين، والفلسطينيون من وجهة نظر إسرائيلية، يمثلون نموذجاً واضحاً للأغيار، الذين ينتمون إلى طبقة أقل في قدرها الإنساني من اليهود. هذه الفكرة التي تجد جذورها في العهد القديم، مع الحديث عن أبناء السماء، الذين تزوجوا من بنات الناس، فكانوا موضوعاً للعنة الإلهية، والفلسطينيات من بنات الناس الذين يمثلون موضوعاً متاحاً أمام العنف الإسرائيلي، بحيث تتجاور في استراتيجيات القهر والامتهان، ثقافتان، على قدر كبير من اللؤم والخطورة، الأولى، الثقافة الاستعمارية، التي يمكن أن يمثل نموذجها الصارخ الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، الذي تمكن من صناعة مجتمع الرفاه في بلاده، بالأيدي المقطوعة لأهالي الكونغو الذين يفشلون في تزويد خزانته بالمطاط ليتحول إلى أرصدة ذهبية، والثقافة الثانية، التوراتية المتعصبة والمنغلقة، التي تؤسس لشعب الله المختار مقابل الأغيار، الذين إن وجدوا مكاناً في الملكوت، فهو مكان تابع ولاحق، من غير أن يكون حقاً أصيلاً أو إنسانياً، فالإنسانية درجات متباينة وفقاً لهذه الثقافة. المجندات الإسرائيليات في العنف النفسي الذي مورس على سيدات فلسطينيات بإجبارهن على التعري أمام أطفالهن، لسن بالضرورة على وعي بهذه المكونات الثقافية، ولكن ذلك لا يحول دون تمثيلها في الممارسة، فهي ثقافة وجودية تتجاوز الجانب الشخصي، وبعض المجندات لم يقرأن شيئاً من العهد القديم، وكثيرات منهن علمانيات، ومع ذلك، فهن نتاج هذه العوامل وهذه النظرة للفلسطينيين بشكل عام.
المجندة الإسرائيلية هي نتاج عملية تشويه منهجي تمارسه العقلية الصهيونية التي تنبني عليها فكرة الدولة في إسرائيل
حادثة تعرية النساء في مدينة الخليل باستخدام العنف والكلاب البوليسية الشرسة تمثل جانباً من حرب نفسية تسعى لتجريد الإنسان من خصوصيته، ومن حقه في الخصوصية، بحيث تصبح الكرامة الإنسانية مجرد تفاصيل إجرائية لا يمكن أن ترتقي مطلقاً إلى غاية سامية تعتقدها المجندات، وهي حماية الأمن الإسرائيلي، وعلى المستوى الأعلى، فإن تجريد الإنسان من احترامه لنفسه، بهذه الطريقة الممنهجة، يمكن أن يؤدي إلى نتيجة تستهدفها إسرائيل، بسعيها إلى تجريده من احترامه لأي قيم رمزية تحاوطه مثل الأسرة أو الوطن، بمعنى تحقيق فكرة السقوط بصورة تدريجية، بحيث يصبح الإنسان المذل والمهان، عدواً لنفسه، ولاحقاً، عدواً للجميع. التشويه ليس من حصة النساء الفلسطينيات وحدهن، فالمجندة الإسرائيلية هي الأخرى نتاج عملية تشويه منهجي تمارسه العقلية الصهيونية التي تنبني عليها فكرة الدولة في إسرائيل، فالمجند في الجيش هو نتاج ثقافة الخوف التي تعيش في المجتمع الإسرائيلي وتعشش فيه، لتعبر عن نفسها في الممارسة العنيفة وغير الإنسانية، بمعنى خضوع الشخصية الإسرائيلية لحالة من الحيونة، مرتبطة بأجواء العنف وعقيدة الغابة، بالاستراتيجية نفسها التي جعلت المجندين الأمريكيين يتصرفون بسادية ووحشية في معتقل أبو غريب. لا توجد أي مبررات أمنية أو أخلاقية لإطلاق جميع العقد الكامنة في الذهنية الصهيونية تجاه الشعب الفلسطيني، وتجاه المرأة الفلسطينية التي تعايش واقع الاحتلال ومراراته، بالإضافة إلى وضعها في بنية المجتمعات العربية، ويلحق بذلك إعمال السادية على فئات مستضعفة، خاصة الأطفال، وبعد ذلك، تتساءل العقلية الإسرائيلية عن سبب العنف أو المقاومة، وكأنها تجهله.
استطاعت إسرائيل أن تدير عملية امتهان وتنغيص منهجية غير ضرورية، ولا تحمل أي معنى تجاه الفلسطينيين، والفرق أن أدوات الوصول بالمظلومية الفلسطينية أصبحت متاحة نوعاً ما، قياساً بما كان يحدث على المنافذ الحدودية في الجانب الإسرائيلي، حيث تواصلت عمليات تعرية الفلسطينيين في التفتيش، في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، من غير أي موقف يردع الإسرائيليين عن هذه الممارسات، وبصورة تترك آثارها العميقة في النفس، خاصة في النساء والأطفال، وتراجعت هذه الممارسات بعد فورة اتفاقيات السلام، إلا أنها أصبحت إحدى الأدوات الجاهزة في حزمة الحلول الإسرائيلية. كرامة الفلسطيني يجب أن تبقى خارج الصراع على الأرض، أو الأمن، أو مهما يكن من معطيات، والعمل الأمني لا يعني تجريد الإنسان من كرامته ولا تحويله إلى مستوى دون – إنساني، وهذه مسألة غير مقبولة ويجب تصعيدها لتصبح في مكانها الطبيعي بوصفها جرائم ضد الإنسانية، وبغض النظر عن الحكومة التي تدير (إسرائيل)، أو توجهات الجنرالات في جيشها وأجهزتها الأمنية، أو نفسية أو مزاجية المجندين، يجب أن يتخذ العالم موقفاً حازماً بإدانة هذه الممارسات بصورة عملية تصل إلى إجراءات عزل وإقصاء ووقف التعامل التجاري وقطع العلاقات والنبذ في المنظمات الدولية، لأن وجود هذه العقلية في التعامل، أمر يفتح الطريق لنسخة جديدة من الإنسانية المتوحشة، يمكن أن تدفع الجميع مع الوقت إلى نتائج مريعة ما زالت حاضرة في ذاكرة العالم.
كاتب أردني