- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
الصوره الثانية لنجيب محفوظ
"لو تصورت نفسي ناقدا، فإنني أفضل أن أسير إلى العمل الأدبي واضعا فلسفتي وراء ظهري لا أمامي، وأن أقدر العمل كإنسان له فلسفته، لا كفيلسوف فذ لا يخلو من إنسانية". هكذا أوجز الأديب الكبير نجيب محفوظ رؤيته للنقد وللناقد في كلمات قليلات أبانت أيضا عن المنهج الذي اتبعه محفوظ في تعامله كقارىء مع النصوص الأدبية، وهو المنهج الذي حاول الدكتور تامر فايز استكشافه في كتابه "نجيب محفوظ ناقدا.. مقاربة تأويلية لحواراته في المجلات الأدبية".
المؤلف يرى أن نجيب محفوظ في حواراته كان ناقدا متمكنا من مقولاته وصيغه النقدية، ملم بعناصر ثقافية عامة ونقدية خاصة جعلت منه ناقدا متمكنا، وهي الصورة التي يحاول الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018، أن يجليها عبر صفحاته الأربعمائة وستين، محللا لثلاثين حوارا أجريت مع محفوظ خلال الفترة من ١٩٥٧ حتى عام ٢٠٠٥ أي قرابة نصف قرن، وهي فترة تمثل زخم الثقافة العربية على تشعب مكوناتها وعلى رأسها المكونان الإبداعي والنقدي.
ثلاثة صور لمحفوظ
هناك من النقاد من يدمجون شخص الكاتب بنصه، وهو ما يرفضه نقاد آخرون، لكنهم بدورهم يسقطون في استنباط أحكام مما يقوله الكاتب في حوارات أو لقاءات أو غيرها، وهو ما يجانب الصواب أحيانا، إذ الكاتب شخص متشعب، لا يمكن حصره في صورة أو جسد واحد. وهو ما أدركه تامر فايز في تعامله مع حوارات نجيب محفوظ، إذ تناولها باعتبارها خطابات من نوع مخصوص، تحمل في ثناياها الصورة الحقيقية لنجيب محفوظ وهي صورة ثالثة تختلف عن صورتين شائعتين له على مستويي الذات والإبداع، فمن ناحية الذات (شخصية نجيب محفوظ) فقد تم تصدير صورة ما له بعد فوزه بجائزة نوبل 1988، وهي صورة اتسمت بالكثير من المغالطات، لا سيما فيما وصل للعوام الذين يعرفونه عن طريق الأفلام التي قدمتها السينما عن رواياته، فأشيع أنه مسيحي، وأنه يكتب ضد الإسلام.
أما الصورة الثانية فتشكلت لدى القراء الذين بحثوا عن سيرته في ثنايا رواياته، أما على مستوى الإبداع فقد ظهرت أيضا صورتان له، الأولى انعكست في أذهان عامة المتلقين لأعماله كما ظهرت في السينما، وقد مست لديهم الأوتار حساسة عقائدية واجتماعية وسياسية، والثانية تشكلت في وعي المثقفين الذين لم يتعرضوا للعبث في أفكارهم بنجيب محفوظ وفكره كما تعرض العوام، وهذا أكسب الحوارات مع محفوظ قيمة كبرى، فقد تناثرت عبرها ملامح الصورة الثالثة لنجيب محفوظ ناقدا.
وقد بدأ مؤلف الكتاب محاولته لتجميع ملامح تلك الصورة بالتوقف عند اختلاف النقاد حول كتابة محفوظ لسيرته الذاتية، فمثلا غالي شكري رآه واحدا ممن سعوا لسرد الذات معتمدا على تصريح للروائي الكبير بأنه هو كمال في الثلاثية، بينما محمد بدوي يذهب إلى أن محفوظ بدأ بنفي ذاته عن الكتابة وتمويهها، وآخرون سايروه وتحدثوا عن مفارقة تتمثل في أن الرجل الذي أدمن سرد حيوات الناس وترميزها وإثقالها بالمعاني لم يتحدث مرة واحدة عن نفسه بوضوح وحسم.
ويختلف المؤلف مع كلا الرأيين، فقد اعتمدا على قراءة تجزيئية في فهم السرد/ النقد ذاتي لدى نجيب محفوظ، بينما القراءة التكاملية تكشف بجلاء عن أهم ملامح نجيب محفوظ الذاتية، فالقراءة لحواراته تكشف عن حضور الجانب الذاتي والعائلي والثقافي والسياسي، كما ظهر محفوظ في أغلب هذه الحوارات ناقدا ومنظرا، فقد صاغ نظرية شبه متكاملة للإبداع الروائي مستفيدا من خبراته الإبداعية التطبيقية ومن قراءاته، ومنطلقا من قاعدتين رئيستين أولاهما تفضيله للرواية عما عداها من أنواع أدبية والثانية ربط الرواية بالواقعية كمذهب فكري وأدبي لا يقل اتساعا عن الرواية.
فالمدقق في هذه الحوارات يلحظ أن محفوظ يحدد بدقة منابع استقاء رواياته، ثم يضع خريطة متكاملة لصياغة العمل الروائي، مرورا بتشكيل الأحداث والشخصيات واللغة الروائية، وصولا إلى الصياغة الختامية للرواية، مما يعد درسا في الكتابة للروائيين من بعده، وأيضا يتيح للنقاد فرصة فهم آليات تشكل العمل الروائي في ذهن محفوظ.
فخاخ للنقاد
ذكر جارثيا ماركيز مرة أنه كان يتعمد أن يصنع في رواياته فخاخا للنقاد وكان يسعده أن يقعوا فيها، لكن نجيب محفوظ ودون تعمد بث في حواراته فخاخا لنقاده، تلك الفخاخ العفوية بدت آثارها فيما كتبه النقاد عن محفوظ ورصد تامر فايز بعضه في فصل مستقل عن "تأثيرات النقد المحفوظي في النقد الأدبي العربي"، فيذكر أن هذه الحوارات شكلت مرتكزا أساسيا اعتمد عليه النقاد في إصدار أحكام نقدية سواء لصالح شخص وأدب نجيب محفوظ أو ضدهما، ومن الدراسات التي أفادت كثيرا من تلك الحوارات، كتاب "المنتمي" لغالي شكري حيث اعتمد الناقد على تصريح نجيب محفوظ في حواراته بأنه هو كمال عبدالجواد في الثلاثية، في بناء فرضيته الأساسية القائمة على فكرة الانتماء، كما كانت تصريحات نجيب محفوظ مؤثرة كذلك في القضايا الفرعية التي ناقشها كتاب "المنتمي".
ومن الدراسات التي تأثرت في أحكامها القيمية والجمالية بالحوارات دراسة إدوار الخراط "نجيب محفوظ: القدرية كموقف من الكون"، فقد اعتمد على قول نجيب محفوظ بأن رواياته التاريخية الأولى كانت تتمسك بقضايا الحاضر، لينفي عن تلك الروايات صفتي التاريخية والرومانتيكية، وحكم على أسلوب نجيب محفوظ في تلك الفترة بأنه تقليدي قديم وجاحظي، وقد استعرض الكاتب دراسات أخرى لنقاد آخرين بنوا فرضياتهم وأحكامهم تحت تأثير واع أو غير واع لتلك الحوارات.
وهنا يتساءل الدكتور تامر فايز عن موضوعية ومنهجية الاتكاء على آراء المبدعين وتصريحاتهم في تحليل أعمالهم الإبداعية، ويرى ضرورة التفرقة بين المبدع الصرف، والمبدع الناقد، أي المتمكن من أدواته النقدية التي تمكنه من التعامل مع الأعمال الإبداعية من وجهة نظر نقدية، وهي غير وجهة النظر الإبداعية التي تشغله حينما يمارس الإبداع، وقد كشفت إجابات نجيب محفوظ على تساؤلات محاوريه عن امتلاكه لهذه الأدوات بما لا يقل عن أي ناقد من نقاد عصره، فقد امتلك القدرة على صياغة رؤاه العامة حول الفنون والآداب، بالإضافة إلى قدرته على الربط بين مقولاته التنظيرية وتطبيقاته على مجموعة النصوص والظواهر بما يثبت وعيه الدقيق بماهية تلك المصطلحات.
لقد تجلي نجيب محفوظ في حواراته مثقفا عاما، ملما بكافة جوانب حضارته بل والحضارات الأخرى، يجمع في خلفياته الثقافية بين التوجهين، الغربي والعربي، وهو ما أسهم في تخليق صوره النقدية التي ظهر عليها فتمكن من نقد الثقافة والفنون والآداب، لذاته ولمبدعين آخرين، وفي لغته ولغات الحضارات الأخرى التي اطلع عليها مستفيدا منها: ثقافيا وفنيا وأدبياً.