- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
انتظار.. قصة قصيره للكاتب ممدوح عبدالستار
انتظار.. قصة قصيره للكاتب ممدوح عبدالستار
- 3 أبريل 2021, 11:51:29 م
- 1166
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تعوّد أن يرمي هدومه في أي ركن، بعيداً عن جسده، فيحس بارتياح، ويقفز كفراشة، ويحلق في غرفته، قافلاً إياها، حتى لا يقتحم عليه أحد خلوته، فيضطر لارتداء ملابسه مرة أخرى. ما أصعب ذلك على نفس قد تعودت على هذا!
من خرم الغرفة الوحيد- خرم المفتاح- يتلصص عليه بعض الأطفال. كثيراً ما دخل عليه بعض الناس من ذوي الشهامة والأصدقاء في أوقات متفرقة، يتفرجون على جسده، المستلقي في أي مكان، على السرير، أو أرض الغرفة، فقام مفزوعاً، ولم يجد شيئاً يستره بعد ذلك، إلا قفل غرفته من الداخل.
* * *
بعد أن افتضح أمره، وضع الجسد في سروال أو بنطال وقميص. وظل هكذا مدة من الزمن سجيناً لملابسه، حتى جاء صيفه المحبب، فخلع ملابسه على غير إرادته وبشوق، وتمدد في أرض الغرفة ناسياً الناس، بل تشجع، ولم يقفل الباب من الداخل. وتعمد كثيراً أن يوارب الباب، لكن الناس قد انشغلوا عنه، وتركوا له جسده قانعين بما لديهم.
* * *
الغرفة واسعة بعض الشيء. في الزاوية اليمنى سرير نحاس، ينفعل باهتزازات الجسد، فيسمع منه أنيناً، متوجعاً. وبجوار السرير منضدة صغيرة تتناثر عليها بعض الكتب الصفراء، وكرسي يبدو لأول وهلة أنه عتيق، ودولاب يحشو فيه الملابس المهترئة، وبنطال وقميص جديدان، ومرآة عريضة تزين مدخل الغرفة، حين تحاول النظر فيها يرتد النظر إليك خاسراً، وحين تدقق أكثر في المرآة عسى أن تصيب منها شيئاً، أو تجد صدى لأي صورة، فلن تجد إلا بقعاً سوداء، وخلف الباب بعض المسامير المدقوقة في الجدار يعلق عليها ملابسه.
* * *
أنا جاره الذي يسكن بجوار غرفته، أينما يسير فأنا وراءه. لستُ أدري سبباً لذلك. ربما أكون شغوفاً به، ربما، أو ربما قد نظرني مرة ذات صباح نظرة قد خلعت عني ملابسي. هذا الخيط من الجنون هو الذي يربطني به.
* * *
على أطراف أصابعه يدور بغرفته، ويستتر بظلمة الليل، فلا يلمحه أحد وهو داخل إلى دورة المياه. هل يخاف الليل، أم يخاف من أن يلمحه أحد؟ أيخشى الناس بالليل فقط؟ عين النهار فضاحة، يواري سوءته بملابسه المهترئة، هل يدرك أن عيون الناس هنا تلمحه كلما غدا أو راح؟ لا يعني هذا بالضرورة أن يتخفى من الناس، أو يخفي شيئاً كجسده، يستطيع الأعمى أن يعرف موضعه، لا أحد يجزم أنه مع أو ضد. سمعته مرة وأنا أخطو خطوة خارج غرفتي في بداية سكني لهذه الغرفة: (إن تركت الناس، لا يتركوك)
* * *
البارحة فقط، نظرني جيداً، وخبط بقدمه موضع غرفتي، ففتحتُ له الباب منشرحاً على غير عادتي. قال: (هل أجد عندك..؟)
ولما رآني منشرحاً على غير العادة، ولم أدعه يدخل، خطى بخطواته الفقيرة عائداً. وقبل أن يدخل، التفتْ إلىَّ، لكنني أجزم أن بعينيه كانت تتكور بعض الحصى. مسكها قبل أن ينفرط عقدها، ولم تنحدر دموعه إلا حينما أصبح وحده داخل غرفته، فكانت حصوات عينيه تقع في أرض الغرفة،
فأسمع لها ارتطاماً يوشك أن يفقدني القدرة على الكلام أو التركيز، غير أنني في هذه اللحظة، كنتُ أشتهي فقط البكاء في حضنه، يا إلهي! لم أتعود منه مطلقاً أن يخطو إلى غرفتي في أي ساعة من ليل أو نهار. ليست غرفة جيدة على الإطلاق. هذه حقيقة. كيف نسيتُ أن أدعوه للدخول، وهو السباق إلى قرع باب غرفتي؟ كان يجب أن يدخل ولو غصباً. هذا الرجل له من الأنفة والعزة ما يجعل الناس تخشاه. آه. لقد تذكرتُ. لقد رأيته يحك جلده بيديه.
* * *
في منتصف ليل اليوم، سمعتُ توجعاً، فاستطلعتُ الأمر، ووجدتُ كثيرين حول بابه، وقد ترك باب الغرفة مفتوحاً، ليس بإرادته، لأنه كان مشغولاً جداً هذه المرة، ولم يكن خائفاً، ولم يشعر بأحد، فقد بدأ ينهي هوايته إلى الأبد. كان يحك جلده، ولحمه بقوة، ويظفر بهما، ويضعهما بجواره على السرير، أو أرض الغرفة، حتى باتتْ عظامه، واستراح في نوم عميق، لعله قد استراح في نوم عميق. وظل هكذا مدة. لم يقدر أحد أن يزعجه، أو يتلصص عليه، حتى دخلتْ بعض القطط الضالة، تنشد جلده، ولحمه، دون أن يقول لها كلمة، وقد باتتْ رائحة الغرفة نتنة إلى أبعد حد، فأبلغنا الإدارة الصحية، ووقفوا أمام غرفته أيضاً بإجلال واحترام، وسكبوا الكيروسين، وأشعلوا في غرفته النار، حتى أتمتْ النار عملها المثير. استرحنا قليلاً، وفرحنا، وقد قفزنا كالصغار على نحو ما، وأنه قد بات لنا أن نكون غير خائفين هذه المرة.
في هذه اللحظة بالذات، ابتدأنا نعاني هوايته، واستلقى كل منّا عارياً تماماً في غرفته، منتظرين النار التي أفرحتنا.