ايلي عبدو يكتب: سوريا: شجرة الياسمين التي آن أوان اقتلاعها

profile
  • clock 7 سبتمبر 2023, 5:08:36 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

الحنين الذي يعبر عنه عدد من السوريين تجاه بلدهم، من وقت لآخر، لا يبدو صحياً، خصوصاً أنهم يستندون إلى مواقف وتجارب شخصية، أبطالها الأهل والأصدقاء، ومسارحها البيوت والأحياء والمدارس الأولى والصداقات الحميمة، عازلين السلطة عن التأثير، بكل ذلك. إذ إن المخزون الهائل من الذاكرة يجري اجتزاء «الإيجابيات» منه، وفصلها عن هيمنة السلطة وانعكاسها على العلاقات في مختلف أوجهها، لاختلاق سياق مشترك قوامه كل ما هو «إيجابي». هكذا يفصل الخاص عن العام، وتنتفي تأثيرات الثاني على الأول وصياغتها له، وربما التحكم في مجرياته بشكل حاسم. فلا يترافق استحضار العلاقة مع رفاق المدرسة وما تثيره من ذكريات سعيدة، مع الأدلجة البعثية والتدريب العسكري وانتشار التلامذة المخبرين في الصفوف، وقسوة الأساتذة المرتبطة بعنف عمومي تفرضه العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتتناسل كجزئيات هنا وهناك. كذلك، الأمر بالنسبة لاستحضار الصلات الأسرية الدافئة، إذ يتم تجريدها من الهرمية والأبوية وشبكات القرابة التي تذوّب الفرد في جماعة وتحجب عنه فرصة أن يكون مسؤولا عن نفسه ويمتلك سيادته على مصيره وقراره. فتستعاد الأسرة بشكل نوستالجي، كسند ومرجع يفتقده الكثيرون في «غربتهم»، بعد أن كانوا «محصنين» به في «وطنهم».

يزداد الشرخ بين الحوامل السياسية والاجتماعية التي تصنع الذكريات، وما تثيره هذه الذكريات من مشاعر حنين، فالأولى تتحكم بها السلطة، والثانية تنكر هذا التحكم

أما الصداقات فتعزل أيضا عند عبّاد الحنين، عن أجواء اللا ثقة التي تعممها السلطة في المجتمع بوسائل شتى أبرزها، نشر الوشاية، فضلا عن الانقسامات الطائفية والمناطقية التي ترخي ثقلها على علاقات من هذا النوع، فتجعل أبناء الطائفة أو الإثنية أو المنطقة الواحدة أقرب لبعضهم بعضا، وأكثر استعداداً لنسج صداقات. وهذا ما كان يظهر في الجامعات، حيث تتشكل «شلل» تبعا للانتماءات، وأحياناً كانت تحصل صدامات عنيفة بينها.
صحيح أننا لسنا حيال توتاليتارية تصوغ وعي محكوميها بشكل تام ومطلق، لكن الصحيح أيضاً أن الاستبداد يتسلل إلى العلاقات الأسرية والصداقية والمدرسية، يؤثر فيها ويتأثر بها. وعليه، الحواضن التي ينتعش فيها الحنين، ليست بريئة من آليات التدجين الاجتماعي والترهيب السياسي، اللذين يغذيان بعضهما بعضا، في كثيرة من الأحيان، لنصبح حيال مناخات يحكمها الخوف وانعدام الثقة وانتشار النميمة والشائعات، وتحطيم الآخرين معنوياً وتدهور الأخلاق، وتراجع القيم المدينية وزحف الريفية وتصاعد الأصولية. من هنا، فإن الحنين لأي شيء من هذه البيئة، يعاني على الأرجح من عطب ما، إذ تختلط علاقات الهيمنة والترهيب التي ساهمت في تشكيل الذاكرة، التي تعتبر مستودع النوستالجيا السورية، مع المواقف والسلوكيات والتقاليد والأمكنة التي يشعر الكثيرون بالحنين إليها. فيتداخل شعور الاشتياق لجلسة مع أصدقاء، مثلاً مع الشك في أحدهم والاشتباه بكونه مخبراً، كما يتداخل استحضار موقف مضحك في المدرسة مع عنف المدرسين، وأيضاً، عطف العائلة واحتضانها مع قتل الشخصية ومحوها. التداخل هذا الذي سرعان ما يتحول إلى تناقض حاد، يفتح الباب للتشوه عند النوستالجيين، فيشعرون بالحنين لمواقف وأمكنة لعلاج «قسوة الغربة»، من دون الانتباه إلى أنهم يحنون أيضا إلى ما يكرهون، أو بشكل أدق، إلى ما تسبب في «غربتهم»، وطردهم من بلادهم، فيصبح العلاج مسبباً لمشاكل أفدح من تلك التي «يعالجها» مؤقتا. ويزداد الشرخ بين الحوامل السياسية والاجتماعية التي تصنع الذكريات، وما تثيره هذه الذكريات من مشاعر حنين، فالأولى تتحكم بها السلطة، انطلاقا من آلياتها الإخضاعية، والثانية تنكر هذا التحكم، وتنتقي ما تحب من صداقات ومواقف وأمكنة، لترد بها على «الغربة». ولعل تجاوز التشوه هذا، يبدأ من بناء صلة بين الذكريات والحوامل التي ساهمت في تشكلها، فلا تُعزل السلطة عن الحنين، بل تكون، بكل ما تملك من تأثير وهيمنة، مدخلاً لفهم مركباته. وهذا مرهون ببناء علاقة جديدة مع سوريا تنطلق من الاعتراف بتأثير السلطة على المجتمع، وبمشاكل المجتمع نفسه من طائفية وعنصرية ومناطقية، ما يجعل العلاقات والأسر والصداقات والأمكنة والفضاءات العامة، مشوبة بالعنف والتسلط وأعطاب أخرى. وفي الخلاصة، شجرة الياسمين، التي تعد أيقونة النوستالجيين السوريين، ليس مفصولة عن الاجتماع المعطوب المتشكل حولها، ومحاولة عزلها عن هذا الاجتماع ليس حنيناً سوياً، بقدر ما هو تناقض في العلاقة مع بلد، جميع الأخبار التي تردنا عنه تؤكد أن الصيغة التي كان عليها في السابق قد انتهت، وبناء صيغة أخرى تتطلب اقتلاع شجرة الياسمين.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)