- ℃ 11 تركيا
- 18 نوفمبر 2024
بيسان عدوان تكتب: إلى الناجين من هولسكت غزة
بيسان عدوان تكتب: إلى الناجين من هولسكت غزة
- 29 مايو 2024, 7:16:27 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم يذهب كافكا الي غزة، لم يكتب يوما عن رفح وجباليا وبيت حانون والشاطئ وبيت لاهيا، لم يلمس الأشلاء المبتورة والمتناثرة من خيمة صغيرة في اقصي نقطة من الوجع في المواصي، لم يشم رائحة اللحم المحترق في الخيام في ليلة عنف متواصلة منذ أكثر من سبعين عاما، ولم ير المسافة من قلبك إلى البلاد، ولم يسمع صوت أنين الحياة تسري في المخيم بعد انتهاء العاصفة ، لم يدرك كيف تزغرد الأمهات حين يودعن ابنائها نحو السماء. لم يعرف كيف تدبرت جنين أمرها لتنجو بعد القتل. ولن يفهم كافكا ولا كل الروائيين والشعراء ماذا يعني أن تخرج من العاصفة وكيف ستكون بعدها.
أنْ تكونَ فلسطيني يعني أنْ تُصابَ بشقاءٍ جميلٍ لا تقدرُ على الفِكاكَ منهُ، أنْ تصابَ بلوثةِ أملٍ زائفةٍ، أنْ تُحوّلَ أيَّ هزيمةٍ كبُرت أو صغُرت إلى حجارة تتكىء عليها للصّعود، أنْ تُبقي مستوى الموت مُرادفاً لمستوى الحياة، أنْ تُصابَ بهذا القدر الغرائبي الذي يلاحقُك كعاصفةٍ صغيرةٍ كلّما غيّرت اتجاهك لتنجو، تلاحقُكَ، تُرواغُها مرّةً بعدَ أُخرى، لكنّها تتبعُكَ؛ قدراً يشبه لعنتَكَ، تلك اللّعنةُ التي تشبه رقصةً مشؤومةً مع الموتِ، لا يهبُّ فجَأةً أو يأتيك على حين غفلةٍ منك، ليس شيئاً لا يمتّ لك بِصِلةٍ إنّه أنت، إنّه شيءٌ ما بداخِلِكَ.
كُلُّ ما عليكَ فعلهُ حين تكونُ فلسطينياً هو أنْ تدخلَ في العاصفةِ مباشرةً، تُغمضُ عينيكَ وتسدَّ أُذنيكَ وتسيرُ فيها نحو بلادٍ لا تعرفُ من رائحتها غير إسمك، وبعضاً من ملامحِكَ تحملها على ظهرِكَ وسنينكَ، تمضي نحوها خطوة خطوة، وتفردَ ذراعيك، وتمدّد جسدك فوق صفحة مياهه وتستسلم له.
هُناكَ حيث لا يوجدُ غير صوتِ الرّيحِ تخور في أوصالِكَ، لا شمسَ هناك ولا قمرَ، لا اتجاهاتٍ، ولا احساس بالزّمانِ أو المكانِ، فقط دوامةٌ مِنَ الرّمالِ البيضاء المحبّبة التي تتركُ ندوباً على جسدك منذ طفولتك بالمخيم، ندوبٌ تكوّنت مِن قذيفاتٍ صغيرةٍ، مِن موتٍ كاد يضلّ طريقه إليك، الانفجارات واللّحم المتقطّع بين عينيك يلوّن نهارك الصّغير بروائح الدّماء وشظايا العظام التي تراها في مناماتك المتكرّرة.
أنت تهربُ منذُ أكثرَ مِن أربعين عاماً وهي كُلُّ ما تملكه من زمنٍ نحو حيوات أُخرى تشمُّ فيها رائحة الأعتياد؛ حيث لا أملَ، لا حزنَ، لا فرحَ ولا يأسَ؛ حيواتٍ عاديّةٍ كحياةِ أولئك العاديون جداً.
لا أعرفُ كيف يبدو أولئك البشر، كيفَ تكونُ روائحهم، كيفَ تصبحُ أجسادُهم صافيةً مِن دونِ خربشاتٍ أو ندوبٍ تستوطن جسدك وروحك.
عليكَ دوماً أن لا تُخطئ وأنتَ في العاصفةِ؛ الخطأ ممنوع!
كُلُّ خطأ يعني الموت الذي سيقطعُ اللّحمَ والرّؤوسَ، يعني الدّم الذي سيسيلُ داخلَ روحِكَ وينزفُ الجميع، وتتلقّف أنت ذلك الدّم الأحمر الحارَّ بيديك؛