تصاعد صفقات التبادل السلعي في التجارة الدولية

profile
  • clock 29 يونيو 2022, 3:55:21 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

شهدت الفترة الماضية صعود نمط المقايضة السلعية باعتباره أحد الأنماط الرئيسية في التجارة الدولية، في ظل الأزمات التي باتت تواجهها الدول؛ حيث لم تكد الدول تبدأ في التعافي التدريجي من تبعات فيروس كورونا المستجد حتى اندلعت الحرب في أوكرانيا وأفضت إلى تداعيات اقتصادية سلبية على كافة الدول. وفي ضوء محاولة الدول الحفاظ على مواردها المالية لتلبية احتياجاتها الطارئة، تزايد اللجوء إلى المقايضة التي تعبر عن تداول للسلع أو الخدمات بين الدول دون استخدام الأموال. علاوة على ذلك، ظهرت المقايضة بوصفها واحدة من الأدوات التي تستخدمها بعض الدول لتجنب العقوبات الدولية المفروضة عليها، أو بمعنى آخر للتحايل عليها.

نمط متصاعد

تشير المقايضة إلى عملية تداول للسلع أو الخدمات بين طرفين أو أكثر دون استخدام المال، أو وسيلة نقدية. وفي جوهرها تتضمن المقايضة توفير سلعة أو خدمة واحدة من قبل طرف مقابل سلعة أو خدمة أخرى من طرف آخر، كما تسمح المقايضة للأفراد بالمتاجرة في العناصر التي يمتلكونها لكنهم لا يستخدمونها، مع الاحتفاظ بأموالهم في متناول اليد مقابل النفقات التي لا يمكن دفعها من خلال المقايضة، مثل الرهن العقاري والفواتير الطبية والمرافق. أيضاً تنخرط الدول في المقايضة عندما تكون غارقة في الديون وغير قادرة على الحصول على التمويل، بالإضافة إلى عدم قدرتها على الحصول على النقد الأجنبي في وقت الأزمات الاقتصادية العالمية.

ومن خلال المقايضة يجري تصدير بضائع مقابل استيراد أخرى تحتاجها الدولة. وبهذه الطريقة، تدير الدول العجز التجاري وتعمل على تقليل حجم الديون التي تتحملها. وحديثاً ظهر مؤخراً ما يسمى نظام الصفقات المتكافئة بين الدول للمساعدة في تبادل السلع، خاصةً في ظل محاولات تلك الدول الحفاظ على احتياطاتها من العملات الأجنبية. وفي هذا الإطار، شهدت الفترة الماضية تصاعداً ملحوظاً في صفقات المقايضة بين الدول، وهو ما يمكن تناول أبرز مظاهره فيما يأتي:

1– مقايضة الهند روسيا لتغطية احتياجات الأسمدة: عقدت الهند صفقة مقايضة مع روسيا، في مايو 2022، لتوريد الأسمدة مع اختتام المحادثات بشأن اتفاق استيراد متعدد السنوات؛ حيث تستورد الهند معظم الأسمدة الخاصة بها، وهو أمر بالغ الأهمية؛ لأن ما يقرب من نصف السكان يعتمدون على الدخل المشتق من المزرعة، كما أدى تعطل النقل في البحر الأسود إلى تقليص رصيد الأسمدة قبل موسم الخريف الحاسم في الصيف بين يونيو وسبتمبر القادم. تمثل الزراعة 20%من اقتصاد الهند البالغ 2.7 تريليون دولار.

وستقوم روسيا بتوريد مغذيات المحاصيل من خلال نظام المقايضة لتجنب المعاملات بالدولار بسبب العقوبات الأمريكية على تدخلها العسكري في أوكرانيا؛ حيث إن الهند هي ثاني أكبر مستورد يستهدف مليون طن من فوسفات الأمونيوم الثنائي (DAP) والبوتاس، ونحو 800 ألف طن من النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم (NPK) من روسيا كل عام، وسيقوم المستوردون الروس باستيراد المنتجات الزراعية الطازجة والأجهزة الطبية وقطع غيار السيارات وسلعاً أخرى من الهند بموجب المقايضة.

2– إمكانية لجوء بعض الدول إلى نظام الصفقات المتكافئة: يُعرف نظام الصفقات المتكافئة بأنه نظام يشمل اتفاق مقايضة محدد القيمة والمدة بين دولتين مختلفتين، يتبادلان بمقتضاه المنتجات دون أن يترتب على ذلك الاتفاق أي تحويلات للعملة بينهما؛ حيث يلغي هذا النظام دور النقود بوصفها وسيطاً للتبادل؛ إذ يتم تقييم كل سلعة على حدة، ومن ثم إجراء حساب إجمالي للكميات المطلوبة من كل طرف لتنفيذ الصفقة في ضوء القيمة الإجمالية لها المدونة في الاتفاقية. ونتيجة لهذه الإيجابيات كان لهذا النظام حضور في التجارة الدولية خلال السنوات الماضية؛ حيث بلغت نسبة استخدام الصفقات المتكافئة فى التجارة الدولية قرابة 60% عام 2016.

وفي هذا الصدد، ربما تدفع الأزمة الاقتصادية الراهنة بعض الدول إلى اللجوء إلى نظام الصفقات المتكافئة؛ فعلى سبيل المثال، تشير بعض التقارير إلى أنه في ضوء دراسة مصر آليات جديدة للتبادل السلعي مع السوق الروسية لخلق توازن في أسعار السلع بالسوق ومواجهة الضغوط المتوقعة على الحصيلة الدولارية؛ من الممكن أن توفر القاهرة مدخلات الإنتاج للسودان عبر الصفقات المتكافئة لتعتمد مصر على السودان في الحصول على القمح من تلك الصفقات المتكافئة، خاصة في ظل التوقعات باستمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية، كما أكد خبراء اقتصاد أن تطبيق المقترح الخاص بمقايضة السلع الأفريقية التي يتم استيرادها بأخرى مصرية مصدرة، سيكون لها مردود إيجابي على التجارة البينية، وكذلك التغلب على مشكلات تدبير العملة اللازمة للاستيراد والتصدير.

3– اعتماد شركات أوكرانية كبيرة على المقايضة: تواجه شركة Astara holding، وهي من أكبر مصدري الزراعة في أوكرانيا، أزمة نقدية شديدة لدرجة أنها تستخدم المقايضة؛ حيث توزع تلك المؤسسة الأعلاف والمكونات الأخرى لـمصانع تجهيز اللحوم مقابل المنتجات التي يمكن توزيعها على العمال وأصحاب الأراضي؛ وذلك بعد أن قطع التدخل العسكري الروسي الوصول إلى الموانئ، وترك المستودعات والمعدات مدمرة. وتوقف التدفق النقدي للمنتجات الموردة. وصرح الرئيس التنفيذي للشركة، بأنه لا يزال يعمل في المقر الرئيسي لمنتج السكر والحبوب والألبان، حتى إنه لم يتم الدفع مقابل شراء الحبوب، وكانت هناك تأخيرات كبيرة جداً؛ لأن العديد من التجار المتعددي الجنسيات أجلوا موظفيهم وتوقفت المدفوعات.

4– مقايضة القمح الهندي بالأسمدة المصرية: أشارت تقارير مؤخراً إلى سعي مصر إلى مقايضة القمح الهندي بالأسمدة وصادرات أخرى؛ حيث تعتبر مصر من أكبر مستهلكي القمح حول العالم، بمتوسط سنوي 23 مليون طن سنوياً، منها 9 ملايين طن تُزرع محلياً، والبقية يتم استيرادها من الخارج. وتجري مصر محادثات مع الهند بشأن استيراد 500 ألف طن من القمح مقابل تصدير الأسمدة ومنتجات أخرى. وتستطيع مصر مقابل الحصول على القمح مقايضة الهند بالعديد من المنتجات؛ حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 5.6 مليار دولار خلال عام 2021. وتستطيع مصر أن تتبادل مع الهند العديد من المنتجات مثل البترول الخام والغاز البيعي المسال، الذي بلغت صادراته المصرية إلى الهند 353 مليون دولار خلال 2021.

5– التوسع في عمليات مقايضة الخدمات: يهتم رجال الأعمال الآن بدرجة متزايدة بالانضمام إلى بورصات المقايضة، التي تضم وظائف مثل أطباء، ومحامين، وشركات خدمات، وتجار تجزئة. وتوجد الرابطة الدولية للتجارة المتبادلة ومقرها الولايات المتحدة، وهي منظمة غير ربحية تأسست في عام 1979 وتروج وتدعم أنظمة التجارة والمقايضة الحديثة؛ حيث يمكن للأعضاء أن يستبدلوا بخدماتهم المهنية ائتمان المقايضة، الذي يمكنهم بعد ذلك استخدامه لشراء خدمات عضو آخر. وفي معظم الأحيان لا تكون تجارة فردية. فعلى سبيل المثال، قد يقوم منسق الحدائق بعمل تنسيق حدائق بقيمة 5000 دولار أمريكي لمكتب طبيب أسنان محلي. هذا لا يعني أن عليه أن يتاجر بعمله مقابل 5000 دولار من أعمال طب الأسنان؛ بدلاً من ذلك، يكون لديه حساب في بورصة مقايضة، يُضاف إليه 5000 دولار للتجارة ويمكنه إنفاق هذا المبلغ فيما بعد في تبادل خدمات مع أعضاء آخرين.

محفزات رئيسية

سببت الأزمة الروسية الأوكرانية صدمة كبيرة لأسواق السلع الأساسية؛ إذ أدت الأزمة إلى تعطيل إنتاج وتجارة العديد من السلع، لا سيما تلك التي تعد فيها روسيا وأوكرانيا مصدرين رئيسيين، بما في ذلك الطاقة والأسمدة والحبوب. وتأتي هذه الزيادات في الأسعار على رأس أسواق السلع الضيقة بالفعل بسبب انتعاش الطلب القوي من جائحة كورونا، فضلاً عن قيود العرض العديدة المرتبطة بالجائحة. وفي هذا الإطار، تبلورت مجموعة من الدوافع الرئيسية لتصاعد المقايضة الدولية:

1– مواجهة اضطراب حركة التجارة العالمية: تسببت الأزمة في أوكرانيا في حدوث اضطرابات في التجارة والاستثمار في جميع أنحاء العالم؛ ما أثر على شركات صناعة السيارات في أوروبا، وأصحاب الفنادق في جورجيا وجزر المالديف، وهو ما دفع تلك المناطق إلى تنفيذ حملات دعائية هائلة، لكنها ظلت تعاني من الركود بسبب الأزمة، فضلاً عن التأثير على مستهلكي الغذاء والوقود على مستوى العالم. وعلى الرغم من أن فقراء العالم هم الأكثر تأثراً، لم يتم ترك أي بلد أو منطقة أو صناعة بمنأى عن هذه الاضطرابات. وأظهرت البيانات أن التجارة العالمية ستنخفض 1%. وتتوقع منظمة التجارة الدولية المنظمة الآن نمو حجم تجارة البضائع بنحو 3% خلال العام الجاري انخفاضاً من توقعاتها السابقة البالغة 4.7%.

كما يشهد مصدرو الصناعات التحويلية مثل فيتنام وتايلاند والمكسيك، انخفاضاً حاداً، خاصة في القطاعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة. ويشهد المصدرون الصافون للمحاصيل، بما في ذلك تركيا والبرازيل والهند، وللوقود الأحفوري، مثل نيجيريا ودول في الشرق الأوسط، زيادة في صادراتها؛ ما يخفف الآثار السلبية للأزمة. وقد ظهرت موجات الصدمة الاقتصادية عبر خمس قنوات: أسواق السلع الأساسية، وشبكات الخدمات اللوجستية، وسلاسل التوريد، والاستثمار الأجنبي المباشر، وقطاعات مثل السياحة. وعليه، ربما تكون فكرة المقايضة والتوسع فيها أداة تساعد بعض الدول في مواجهة هذه الاضطرابات.

2– ارتفاع أسعار السلع عالمياً: تهدد الأزمة في أوكرانيا بمزيد من زعزعة استقرار أسواق الغذاء؛ حيث تمثل أوكرانيا وروسيا معاً ما يقرب من ربع صادرات القمح العالمية. بالنسبة إلى الذرة والأسمدة، كانت حصتهما مجتمعة قبل الحرب نحو 15%. وتسبب انقطاع الإمدادات من هذه السلع الأساسية في ارتفاع الأسعار. فقد قفز سعر القمح، على سبيل المثال، أكثر من 40% منذ بداية الحرب في أواخر فبراير، مع ارتفاع أسعار العقود الآجلة أكثر من 60%. كما أضافت قيود التصدير، مثل الحظر التام، أو متطلبات الترخيص وحدها 7% إلى سعر القمح، وتخاطر بإشعال تصعيد متبادل قد يؤدي إلى أزمة غذائية. وهذا الارتفاع في الأسعار، بالتزامن مع الضغوط الاقتصادية، يحفز الدول على تبني المقايضة فيما بينها للحفاظ على مواردها المالية.

3– تخفيف الضغط على ميزان المدفوعات: من أهم مزايا نظام المقايضة السلعية أو ما يسمى نظام الصفقات المتكافئة، تخفيف الضغط على ميزان المدفوعات والميزان التجاري، وتقليل الطلب على الدولار والنقد الأجنبي لأغراض التصدير والاستيراد. وتدفع تلك المزايا الحكومة والمستثمرين بالسوق للجوء إلى استخدام هذا النظام، خاصة في ظل تراجع حجم احتياطي النقد الأجنبي. وتواجه العديد من الدول في الفترة الأخيرة مشكلة توفير النقد الأجنبي، وخاصة الدولار الأمريكي اللازم لسداد قيمة الواردات من الخارج.

4– تدهور الأوضاع الاقتصادية الداخلية في الدول: يظهر نظام المقايضة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية؛ ففي لبنان مع فقدان العملة اللبنانية أكثر من 80% من قيمتها، وانتشار الفقر بين الشعب، اضطر بعض اللبنانيين إلى بيع ممتلكاتهم الخاصة لشراء حوائجهم الأساسية، خصوصاً بعد أن فقد البعض وظائفهم، وشوهدت تلك العملية في قرى باكستان. ومع ظهور جائحة كورونا في جميع أنحاء العالم، كان الناس يتجهون إلى المقايضة والتداول، سواء من أجل توفير المال أو مجرد الحصول على مكونات الخبز التي يصعب العثور عليها، خاصة في ظل حالة عدم اليقين الاقتصادي الذي كان يلوح في الأفق وارتفاع مستويات القلق، وأصبحت المقايضة حلاً بديلاً ناشئًا للبقاء وسط تفشي الجائحة.

5– محاولات التغلب على العقوبات الاقتصادية: ظهرت المقايضة بوصفها إحدى الأدوات التي تستخدمها بعض الدول للتحايل على العقوبات الدولية. ولعل النموذج الأبرز على ذلك إيران؛ ففي ضوء محاولات إيران للتغلب على العقوبات المفروضة عليها وقعت اتفاقاً في ديسمبر 2021 بمبادلة صادراتها من النفط مقابل واردات من الشاي السيلاني؛ حيث تم التوصل إلى اتفاق يتضمن سداد هذا الدين والفوائد المستحقة لإيران، عبر شحنات شهرية من الشاي المنتج في سريلانكا. وبموجب هذا الاتفاق تصدر سريلانكا الشاي شهرياً إلى إيران لتسوية دين بقيمة 251 مليون دولار أمريكي لقاء نفط إيراني تم تزويدها به قبل تسعة أعوام.

كما وقعت إيران وفنزويلا اتفاقاً، عام 2021، تضمن موافقة فنزويلا على مقايضة نفطها الثقيل بمكثفات إيرانية يمكنها استخدامها لتحسين جودة نفطها الخام الشبيه بالقطران، علاوة على مقايضة إيران نفطها مع فنزويلا مقابل الحصول على الذهب، وقامت الدولتان في مايو الماضي بتوسيع ذلك الاتفاق؛ حيث أضاف إمدادات الخام الإيراني الثقيل إلى مصفاة “إل باليتو” الفنزويلية ومركز “باراجوانا” للتكرير؛ إذ تحتاج فنزويلا إلى زيادة إنتاج الوقود لتجنب أزمة أخرى في البنزين والديزل مثل تلك التي شهدتها في السنوات الأخيرة.

وختاماً.. كان التأثير الاقتصادي للأزمات الاقتصادية المتعاقبة واضحاً في العديد من النواحي، خاصة في الارتفاع الحاد في أسعار السلع الأساسية؛ لذا تسعى العديد من الدول إلى تأمين احتياجاتها من تلك السلع؛ ما أدى إلى ظهور أنماط جديدة للتجارة الدولية، ويرجح أن يستمر تصاعد ممارسات المقايضة بين الدول في الفترة القادمة بوصفه واحداً من الإجراءات التي تستخدمها الحكومات للتكيف مع الواقع المأزوم الجديد.

 

المصدر: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

التعليقات (0)