- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
تقرير منظمة حرية الفكر والتعبير عن وفاة شادي حبش
تقرير منظمة حرية الفكر والتعبير عن وفاة شادي حبش
- 2 مايو 2021, 6:02:00 م
- 698
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تُعَدُّ حالة شادي حبش مثالًا لحالة طبية طارئة كان ينبغي التعامل معها بالاهتمام الفوري المناسب،
حتى لا يؤدي تفاقمها إلى مضاعفات خطرة، وصلت في حالة حبش إلى الوفاة داخل محبسه بسجن طرة.
نتجت الوفاة عن الإهمال في تقديم الخدمة الطبية المناسبة في الوقت الملائم.
يتناول هذا التقرير حالة شادي حبش تفصيليًّا، كمثالٍ على الأزمة التي تواجه نظام العدالة في مصر، بما في ذلك القبض على المبدعين والمعارضين بسبب إبداعهم أو آرائهم السياسية،
وتوجيه تهم متعلقة بالإرهاب إليهم. كما يتناول التقرير اختصاص نيابة أمن الدولة العليا بالتحقيق في قضايا المبدعين والمعارضين على خلفية هذه الاتهامات.
وتُعَدُّ نيابة أمن الدولة العليا نيابة استثنائية، تتمتع بصلاحيات خاصة تؤدي إلى انتهاك حقوق المتهمين، مثل: تجديد الحبس الاحتياطي.
وتعتبر حالة حبش أيضًا مثالًا بالغ الخطورة على سوء إدارة مصلحة السجون لأزمة جائحة كورونا، من إخفاقٍ في توفير الرعاية الصحية للسجناء في ظل الجائحة،
إضافة إلى التدابير التي اتخذتها، من منع اتصال السجناء بذويهم، ومنع الزيارات، وتخطي جلسات تجديد الحبس الاحتياطي،
وعدم الإفراج بشكلٍ كافٍ عن المحبوسين احتياطيًّا، لتقليل الاكتظاظ في السجون. ليس ذلك فقط، بل تسبب سوء الإدارة في تواجد عبوات من الكحول الميثيلي غير الصالح للاستخدام الآدمي مع السجناء.
أخيرًا تم السماح بعودة الزيارات إلى السجون. ولكن تتوالى التقارير عن وفاة سجناء آخرين، حيث أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش،
في 3 سبتمبر 2020، عن وفاة أربعة من المحتجزين في عدة سجون مصرية، أحدهم كان محتجزًا بسجن طرة تحقيق، وذلك في غضون ثلاثة أيام.
يتضمن هذا التقرير خلفية عن قضية شادي حبش وارتباطها بحرية الإبداع. ثم يقدم التقرير خطًّا زمنيًّا لوقائع مرضه ووفاته، وفق بيانات النيابة العامة المصرية.
وينتقل التقرير بعد ذلك إلى أوجه التقصير في وقائع وفاة حبش، ومن ثم تفسير جوانب الحقوق التي تم انتهاكها من قِبَل السلطات المصرية في هذه الوقائع.
لقد تعرَّض شادي حبش لانتهاك حقه في حرية التعبير، والحق في المحاكمة العادلة، وأخيرًا حقه في الصحة والحياة من واقع المعايير الدولية لحقوق الإنسان والتشريع المصري. ويختتم التقرير بعدة توصيات توجهها مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى الجهات الرسمية المعنية.
خلفية: قضية شادي حبش وحرية الإبداع
شادي حبش (١٩٩٦- ٢٠٢٠) هو مصور فوتوغرافي ومخرج مصري شاب، شارك في إخراج أغنية سياسية ساخرة، بعنوان “بلحة” من أداء المغني رامي عصام المقيم خارج مصر.
ألقت السلطات المصرية القبض على حبش في مارس ٢٠١٨، على إثر نشر الأغنية على موقع يوتيوب في فبراير من العام نفسه. كما ألقت السلطات المصرية القبض على ستة آخرين على علاقة بالأغنية[1]،
منهم مؤلف الأغنية الشاعر جلال البحيري[2]، ومصطفى جمال[3]، الذي كان مسؤولًا في وقت سابق عن صفحة المغني رامي عصام على موقع فيسبوك.
وجهت النيابة إلى حبش اتهامات بالانضمام إلى جماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة، في القضية التي حملت رقم ٤٨٠ لسنة ٢٠١٨ حصر أمن دولة عليا.
وظل حبش قيد الحبس الاحتياطي لمدة ٢٦ شهرًا دون أن يُقدَّم إلى المحاكمة بالمخالفة للقانون، حيث كان يجب أن يتم إخلاء سبيله في مارس ٢٠٢٠، بعد انقضاء عامين، وهي المدة القصوى المحددة للحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية.
ولكن ظل حبش في الحبس حتى وافته المنية بسجن طرة – تحقيق، مساء الجمعة، الأول من مايو، ٢٠٢٠، بعد تدهور حالته الصحية.
أعادت وفاة شادي حبش داخل محبسه، الحديث عن الإهمال الطبي في السجون المصرية، ومدى توافر إمكانيات الرعاية الصحية المقدَّمة للسجناء خاصة في الحالات الطارئة،
التي تمثل خطورة على حياة السجين. حيث تم استبقاء حبش في الحبس الاحتياطي دون مسوِّغ قانوني، ما يعد انتهاكًا لحقه في المحاكمة العادلة،
ثم لقي حتفه نتيجة الإهمال الطبي في السجن، فانتُهِك حقه في الصحة وفي الحياة. وبالتالي، تعتبر مسؤولية إدارة السجن مسؤولية مضاعفة،
تستوجب وقفة من النيابة العامة ومصلحة السجون، ويعتبر التحقيق وعقاب المتسببين فيها هو أول الخطوات اللازم على مؤسسات الدولة اتباعها.
كما يعد تكرار حالات الوفاة داخل أماكن الاحتجاز[4]، دون تحقيقات جادة في أسباب الوفاة من غياب الرعاية الصحية وسوء أوضاع أماكن الاحتجاز،
خاصة في ظل جائحة (كورونا)، مؤشرًا خطرًا على عدم التزام وزارة الداخلية، ممثلة في مصلحة السجون، بتحمل مسؤوليتها عن صحة وحياة الآلاف في السجون المصرية.
١. وقائع وفاة شادي حبش
أصدرت النيابة العامة[5] في ٥ مايو ٢٠٢٠، أي بعد وفاة حبش بثلاثة أيام، بيانًا يوضح ملابسات وفاته. اعتمد البيان على شهادة الطبيب الذي وقَّع الكشف الطبي على حبش،
بالإضافة إلى شهاداتٍ من زملائه في الزنزانة. وأوضح البيان أن سبب الوفاة بحسب شهادة الشهود يرجع إلى خلط المتوفَّى المياه الغازية مع الكحول المستخدم في تطهير الأيدي.
١-١ خط زمني لوقائع مرض حبش حتى وفاته طبقًا للرواية الرسمية
فيما يلي محاولة لترتيب الوقائع كما جاءت في بيان النيابة العامة. يُلاحَظ أن صياغة البيان لم تكن واضحة،
وينقصها التاريخ والوقت المحدِد لتطورات حالة شادي حبش منذ عرضه على طبيب السجن.
ظهيرة الخميس ٣٠ إبريل ٢٠٢٠: طبقًا لشهادة أحد زملاء حبش في الزنزانة أنه التقاه _بصحبة آخرين_ بساحة السجن، وبحوزته زجاجة مياه غازية، فشرب منها رشفة فتذوَّق طعمًا غريبًا بها،
ولمَّا سأله عن ذلك، أخبره حبش بخلطه المياه الغازية بمادة الكحول المستخدمة في تطهير الأيدي ليكون لها تأثير الخمر.
فجر الجمعة ١ مايو ٢٠٢٠: قام الطبيب المكلَّف بسجن طرة، بتوقيع الكشف الطبي على حبش للمرة الأولى، وتبين له حسن إداركه وطبيعة معدلات علاماته الحيوية،
بينما أعلمه حبش بشربه خطأً كمية من الكحول “ظهيرة اليوم السابق على وفاته”، والذي وافق يوم الخميس ٣٠ إبريل، مُدَّعيًا عدمَ علمه بقدرها واشتباهه في كون الزجاجة،
التي كانت معبأة فيها زجاجة مياه، وشعوره بآلام في البطن بعد تناول الكحول. أعطى الطبيب حبش مطهرًا معويًّا ومضادًا للتقلصات، وأعاده إلى محبسه لاستقرار حالته.
ويلاحظ هنا أن البيان أقرَّ بمعرفة الطبيب بشرب حبش كمية من الكحول في اليوم السابق، وبالرغم من ذلك لم يقم بإجراءات معالجة التسمم الكحولي أو الاشتباه فيه.
صباح الجمعة ١ مايو ٢٠٢٠: أُبلِغ الطبيب مرة أخرى باستمرار إعياء حبش وإصابته بقيء،، فكشف الطبيب عليه وتأكد من طبيعية معدلات علاماته الحيوية. في هذه المرة،
حقن الطبيب حبش بمضاد للقيء وأعاده إلى محبسه. ثم تواصل الطبيب مع طبيب آخر يعاونه، أكد له صحة ما اتخذه من إجراءات لعلاج السجين.
هنا أقرَّ البيان مناظرة الطبيب للمرة الثانية لحبش وعلمه باستمرار سوء حالته، وبالرغم من ذلك لم يقم باتخاذ الإجراءات اللازمة.
ظهر الجمعة ١ مايو ٢٠٢٠: بسبب استمرار شكوى حبش من آلام بالبطن، قام الطبيب بمناظرة حبش للمرة الثالثة، حيث حَقنَه بمضاد للتقلصات عقب الكشف عليه، والتأكد من سلامة معدلات علاماته الحيوية.
هنا أقرَّ البيان بمناظرة طبيب السجن للمرة الثالثة لحبش، وعدم اتخاذه الإجراءات اللازمة.
مساء الجمعة ١ مايو ٢٠٢٠: استمر سوء حالة شادي حبش. وبعد إبلاغ طبيب المناوبة المسائية بحالة حبش، وحقيقة أنه شرب قدرًا من الكحول في اليوم السابق،
أوصى بنقله إلى عيادة السجن، إلى حين وصول الطبيب إلى مقر السجن. تبين الطبيب المناوب من توقيع الكشف على حبش اضطراب درجة وعيه،
وشرع في اتخاذ إجراءات ترحيله الفوري إلى مستشفى خارجي، وإثر سوء حالته أعطاه محاليل وحاول إنعاش قلبه ورئتيه، إلا أنه لم يستجِب وتُوفِّي. كانت هذه هي المرة الرابعة والأخيرة، التي ناظر فيها أطباء السجن حبش.
هنا أقر البيان بأن التعامل مع حالة حبش بالمستوى اللائق لم يبدأ إلا في المرة الرابعة لمناظرة أطباء السجن لحالته، وأنه تُرك يعاني إلى ما يزيد على اثنتي عشرة ساعة دون تلقي العلاج المناسب لحالته، رغم معرفة جميع من ناظروه بتناوله كمية من الكحول المطهر.
لاحقًا، أصدرت النيابة العامة في ١٠ مايو ٢٠٢٠ بيانًا تكميليًّا[6] يوضح أنه بعد فحص العينة الحشوية المأخوذة من الجثمان، عثر على الكحول الميثيلي، الذي كان السبب في الوفاة بعدما أحدث حموضة بالدم وتثبيط الجهاز العصبي المركزي وفشلًا تنفسيًّا حادًّا.
ورغم مرور أكثر من ثلاثة شهور ونصف الشهر لم تصدر النيابة العامة أي بيانات أخرى عن سير التحقيقات في هذه القضية.
١-٢ تقصير طبي: فشل في تقديم الرعاية الطبية الملائمة لحالة تستوجب عناية طبية طارئة
لم يتطرق بيانا النيابة العامة إلى التقصير الواضح للأطباء وتهاونهم في علاج أعراض واضحة للتسمم الكحولي، ومعرفتهم بتناول حبش كمية غير معروفة من المطهر الكحولي،
منذ المرة الأولى التي شعر فيها بالإعياء. البروتوكول المتبع لعلاج حالات التسمم الكحولي يتمثل في خطوات محددة ومعروفة لأي طبيب.
ويتضمن العلاج مساعدة الجسم على التخلص من الكحول، بينما يتم دعم الجسم بالمحاليل اللازمة خلال تلك العملية.
وفور اشتباه الطبيب في التسمم الكحولي، يجب القيام بفحوص للدم والبول، للتحقق من مستويات الكحول في الدم، وللكشف عن علامات أخرى قد تكون دالة، مثل انخفاض نسبة السكر في الدم.
كما يتضمن علاج التسمم الكحولي “المراقبة الدقيقة، الوقاية من مشاكل في التنفس أو الاختناق، العلاج بالأكسجين، السوائل التي تُعطى عن طريق الوريد لمنع الجفاف،
واستخدام الفيتامينات والجلوكوز للمساعدة في منع المضاعفات الخطرة للتسمم الكحولي”[7]. بالإضافة إلى ذلك، قد يحتاج من تناولوا الكحول الميثيلي (وهو ما ثبت لاحقًا أن حبش قد تناوله) أو الإيزوبروبانول إلى غسيل الكُلى لتسريع إزالة الكحول من مجرى الدم.
١-٣ تقصير رقابي وإداري: توزيع مطهرات سامة على السجناء والتهاون في الرقابة على تلك المستلزمات
يعد نوع الكحول المستخدم نقطة فارقة في قضية حبش، وذلك لأنه رغم أن هناك ثلاثة أنواع من الكحول، فإن نوعين فقط منهما قابلان للاستخدام الآدمي،
وهما الكحول الإيثيلي والإيزوبروبانول. أما النوع الثالث، الكحول الميثيلي، الذي وجدت آثاره في جسد حبش، فإنه يتم استخدامه في تصنيع المواد الكيميائية.
ويمكن التعرف على الفروق بين هذه الأنواع، فالكحول الميثيلي، ويعرف بـ”السبرتو الأحمر”، يُستخرج من احتراق الخشب، بني اللون،
وغير صالح للاستخدام الطبي، وغير قابل للشرب لسُمِّيته العالية، ويُستخدم كمذيبٍ صناعي ويدخل في تصنيع البلاستيك والمواد الكيميائية.
أما الكحول الإيثيلي على الجانب الآخر، فيعرف بـ”السبرتو الأبيض”، يستخرج طبيعيًّا من تخمر القصب، العنب والتفاح، عديم اللون، صالح للاستخدام الطبي في التطهير،
كما يدخل في تصنيع المشروبات الكحولية والعطور بنسب محددة. والنوع الثالث من الكحول هو الإيزوبروبانول، ويستخدم بشكل أساسي في التطهير والتنظيف.
وما يتم استخدامه حاليًّا في تطهير اليدين والأسطح بسبب جائحة (كورونا)، إمَّا كحول إيثيلي وإمَّا إيزوبروبانول، أو خليط منهما. ولا يتم استخدم الكحول الميثيلي مطلقًا في التطهير[8].
ذكر بيان النيابة الأول، أنه بعد تدهور حالة حبش بالقيء والصداع الشديدين، وشعوره بالألم في عينه، أخذ زملاؤه في التأكد من كمية الكحول الموجودة بحوزتهم.
وعثر الزملاء على عبوتين من الكحول فارغتين سعة الواحدة ١٠٠ مللي تقريبًا من نوعية مغايرة، لم يستخدمها سوى حبش، ووجدوا ضمن متاعه عبوة من النوع نفسه.
يعني ذلك أن حبش كان لديه ثلاث عبوات من نوعية كحول مختلفة عن التي يستخدمها زملاؤه في الزنزانة نفسها. فمن أين جاءت تلك العبوات، التي اتضح بعد ذلك أنها تحتوي على كحول ميثيلي وليس الكحول المستخدم في تطهير الأيدي؟
تقع مسؤولية تفسير تواجد ثلاث عبوات من الكحول الميثيلي غير المصرح باستخدامه في التطهير مع حبش على إدارة السجن، حيث أنها مسؤولة عن توزيع مستلزمات النظافة والوقاية من انتشار فيروس (كورونا) على نزلاء السجن،
وذلك في ظل عدم تمكن حبش من التواصل مع ذويه منذ آخر جلسة عُرض فيها على المحكمة في فبراير٢٠٢٠.
كما أُلغي عرض حبش على غرفة المشورة في محكمة الجنايات، بعد الإجراءات التي اتخذتها السلطات المصرية لمواجهة تفشي فيروس (كورونا) داخل السجون في ٩ مارس ٢٠٢٠،
والتي تضمنت تعطيل عمل المحاكم وتأجيل جلسات التجديد، بالإضافة إلى منع الزيارات الأساسية والاستثنائية بين المساجين وذويهم[9].
وبذلك، تعد إدارة السجن هي المسؤولة عن وجود عبوات تحوي كحولًا ميثيليًّا، وهي المادة التي تسببت في وفاة حبش، إضافة إلى المسؤولية الأصيلة عن الإهمال الجسيم في علاجه من التسمم الكحولي،
رغم تردده على عيادة السجن أربع مرات قبل وفاته، وعدم اتخاذ الخطوات الطبية المعروفة لعلاج حالات الاشتباه من التسمم الكحولي.
وبعد التناول المفصَّل لوقائع وفاة حبش المذكورة آنفًا. يستعرض التقرير ملخصًا يوضح الإشكاليات، التي وردت ببياني النيابة العامة، بتاريخ ٥ و١٠ مايو ٢٠٢٠:
لم يتطرق بيانا النيابة العامة للإشكالية الرئيسية في قضية حبش، وهي استمرار حبسه احتياطيًّا رغم انقضاء المدة القصوى المسموح بها قانونيًّا للحبس الاحتياطي وهي عامان،
ولم يذكر أية إشارة إلى تقصير النيابة في إخلاء سبيله أو تقديمه للمحاكمة. ويستوجب استمرار حبس حبش بالمخالفة للقانون التحقيق وعقاب المتسبب عنه.
تردد حبش على عيادة السجن أربع مرات على مدار ما يزيد على اثنتي عشرة ساعة حتى وفاته، منذ فجر ١ مايو، وحتى مساء اليوم ذاته. ورغم مناظرة اثنين من أطباء السجن لحبش؛
طبيب المناوبة الأولى لثلاث مرات، وطبيب المناوبة الثانية لمرة واحدة، بالإضافة إلى طبيبٍ ثالث، قال الطبيب الأول إنه قام باستشارته بخصوص حالة حبش الطبية،
وأقر بصحة ما أعطاه الطبيب الأول لحبش، من مضادات للتقلصات والقيء، فإن هذه الطريقة في العلاج لم تكن صحيحة لعلاج التسمم الكحولي.
علم الطبيبان بشرب حبش كمية غير معلوم قدرها من الكحول، ومع ذلك لم تتم محاولات نقله إلى مستشفى خارجي، أو التعامل مع اشتباه التسمم الكحولي،
إلا في المرة الرابعة، من قبل طبيب المناوبة الثانية، قبيل وفاة حبش مباشرة، حسب روايتهم.
إشارة بيان النيابة العامة الأول، بتاريخ ٥ مايو، إلى أن سبب الوفاة هو خلط المياه الغازية مع الكحول “المستخدم لتطهير الأيدي”،
وهو ما ثبت خطؤه لاحقًا بعد تشريح جثة حبش، بحسب بيان النيابة العامة التكميلي في ١٠ مايو، حيث وجدت آثار للكحول الميثيلي بالجثة، وهو لا يستخدم في التطهير.
لم يتطرق بيانا النيابة العامة إلى إجراءات للتحقيق لمحاسبة المقصِّرين في تقديم الرعاية الصحية لحبش.
جاء بيان النيابة العامة الأول بعد واقعة الوفاة بأربعة أيام، بعد انتشار خبر الوفاة في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي،
وكان من المفترض أن يوضح البيان بالتفصيل ما حدث مع حبش منذ بداية شعوره بالإعياء بالتاريخ والوقت المحدد لكل الوقائع،
لكن كانت الصياغة غير واضحة، بحيث لا يتبين للرأي العام التسلسل الزمني للأزمة الصحية التي تعرَّض لها حبش، وبيان مدى الإهمال الطبي الذي تعرَّض له.
لم يتطرق بيان النيابة العامة الثاني، الذي أثبت وجود بقايا للكحول الميثيلي في جثة حبش، إلى التحقيق في
، أو الاستقصاء عن، كيفية وصول عبوات من الكحول الميثيلي، غير المصرح باستخدامه في التطهير إلى السجين، في ظل عزل السجناء عن العالم الخارجي، ومسؤولية إدارة السجن عن ذلك.
٢. انتهاك حقوق شادي حبش طبقًا للتشريعات المصرية والقانون الدولي لحقوق الإنسان
ينتقل التقرير في قسمه الثاني إلى بيان الانتهاكات المتعددة لحقوق شادي حبش، بسبب اشتراكه في عمل إبداعي،
ولا تعد هذه الحقوق محمية فقط بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولكنها تحظى بحماية وفق الدستور والتشريعات المصرية.
٢-١ انتهاك حق شادي حبش في حرية التعبير والإبداع
وجهت نيابة أمن الدولة العليا إلى شادي حبش اتهامات بالانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة، في القضية التي حملت رقم ٤٨٠ لسنة ٢٠١٨ حصر أمن دولة عليا.
بينما تبين أوراق القضية أن كل ما ارتكبه حبش هو اشتراكه في إخراج أغنية ساخرة مصورة بعنوان “بلحة” قام بغنائها المغني رامي عصام،
ونشرت على موقع يوتيوب عام ٢٠١٨. وبالتالي قد تستخدم السلطات المصرية مواد قانون الإرهاب في ملاحقة والقبض على المعارضين، مستعينة في ذلك بالصياغة الفضفاضة لمواده.
وقد وثقت مؤسسة حرية الفكر والتعبير في تقاريرها السنوية استهداف المعارضين السياسيين والمبدعين خاصة الساخرين منهم، باستخدام اتهامات قد تكون مرتبطة بمواد ذلك القانون.
وبعتبر القبض على شادي حبش وتوجيه تهم تتعلق بالإرهاب إليه تعديًا سافرًا على مواد حرية التعبير في الدستور المصري، حيث ينص الدستور المصري على أن حرية الفكر والرأي مكفولة،
ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.[10] كما أن حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة،
ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري.[11] كما يعتبر ذلك خرقًا لالتزامات مصر أمام القانون الدولي لحقوق الإنسان.[12]
٢-٢ انتهاك حق شادي حبش في المحاكمة العادلة: احتجاز غير قانوني بعد انتهاء مدة الحبس الاحتياطي
ينص القانون الدولي لحقوق الإنسان على أنه لا يجوز احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة كقاعدة عامة، ويكون الحبس الاحتياطي في أضيق الظروف لمن يعتبر استمرار تواجدهم في المجتمع خطرًا عليه
أو قد يؤثر في ماجريات المحاكَمة.[13] كما يجب تفضيل الإفراج عن المتهم في فترة انتظاره المحاكمة، لأنه يعتبر بريئًا ما لم تثبت إدانته بحكم المحكمة[14]،
وبالتالي لا يجوز حرمانه من حريته طالما لم يصدر حكم نهائي بثبوت ارتكابه الجريمة التي تستدعي العقوبة[15].
وبالرغم من أن حبش تم القبض عليه على خلفية اشتراكه في عمل فني إبداعي، فإنه نتيجة للصياغة غير الواضحة لقانون مكافحة الإرهاب المصري،
تم اعتبار اشتراكه في ذلك هو من قبيل العمل الإرهابي، وتم إيداعه الحبس الاحتياطي ما يزيد على العامين، حيث لا تلتزم نيابة أمن الدولة العليا بالمدة القصوى المحددة قانونيًّا للحبس الاحتياطي،
كما تستخدم النيابة الحبس الاحتياطي باعتباره عقوبة في حد ذاته. ويعد احتجاز شادي حبش بما يزيد على عامين بمحبسه بسجن طرة احتجازًا غير قانوني،
حيث أن أقصى مدة للحبس الاحتياطي طبقًا لقانون الإجراءات الجنائية المصري وتعديلاته، هي عامان، استنفدت بنهاية فبراير ٢٠٢٠.
وكانت آخر جلسة حضرها حبش بتاريخ ٢٤ فبراير ٢٠٢٠، ليصدر فيها قرار بتجديد حبسه، والذي تعاملت معه السلطات على أنه سارٍ إلى ما يزيد على ٦٠ يومًا بمخالفة القانون،
الذي ينص على أن جلسات تجديد الحبس تعقد مرة كل ٤٥ يومًا، إلا أنه مع توقف جلسات غرف المشورة على خلفية إجراءات الوقاية من فيروس (كورونا)،
تم مد حبسه تلقائيًّا بدون صدور قرار بذلك[16]. وقد صرح محامي حبش بأن موكله لم يتمكن في ظل الإجراءات الاستثنائية المطبقة بسبب فيروس (كورونا) من التواصل مع ذويه، ما أدى إلى سوء حالته الصحية والنفسية في الأشهر الأخيرة.[17]
ويقبع الآلاف حاليًّا في السجون المصرية على ذمة قضايا متهمين فيها، وتظل الأغلبية العظمى منهم قيد الحبس الاحتياطي ولا يتم تحويلهم إلى المحاكمة إلا بعد انتهاء مدة حبسهم،
وقد يفرَج عن البعض بعد انتهاء مدة الحبس الاحتياطي القصوى دون محاكمة، دون تبرير أو تعويض عن مدة الحبس التي قضوها.
وقد يتم توجيه اتهامات أخرى إلى السجين فور انتهاء مدة الحبس الاحتياطي القانونية له[18]، لضمان بقائه مسجونًا احتياطيًّا على ذمة قضية جديدة، وتبدأ مدة جديدة في السجن قد تمتد إلى عامين آخرين دون محاكمة.
تتطلب أزمة جائحة (كورونا) تعاملًا خاصًّا مع حالة السجناء، لِمَا للسجن من عوامل تتعلق بطبيعته المغلقة، ومساحته المحدودة، وحتمية اختلاط السجناء، تمثل بيئة مناسبة لانتشار الوباء.
ودفع ذلك العديد من الحكومات إلى الإفراج عن أعداد كبيرة من السجناء.[19] وبالتالي كان يجب أن يتم الإفراج عن حبش،
وغيره ممن هم في مثل حالته من الحبس الاحتياطي، لتخفيف اكتظاظ السجون والحد من انتشار المرض، لا أن يتم استبقاؤه دون مسوغ قانوني بعد تمام قضائه مدة الحبس الاحتياطي.
وتعتبر الجائحة سببًا مناسبًا، ولكنه ليس الوحيد، للإفراج عن السجناء المحبوسين احتياطيًّا في مصر[20]. حيث تعتبر حالة شادي حبش دليلًا على سوء خدمات الرعاية الصحية المتوفرة للسجناء،
ما يتطلب إعادة النظر في مدة الحبس الاحتياطي، وفي اكتظاظ السجون بالمحبوسين احتياطيًّا، وفي مستوى الرعاية الصحية المتاحة لهم.
٢-٣ انتهاك حق شادي حبش في الحياة والصحة وفي بيئة صحية آمنة
تم انتهاك حق شادي حبش في الصحة، كمواطن مصري أولًا، وكسجين ثانيًا، مسؤولة عن سلامته الدولة التي تقوم باحتجازه في سجونها التي تشرف عليها.
إن إتاحة الرعاية الصحية دون تمييز هي أحد العناصر الرئيسية للحق في الصحة[21]، ولا يجب أن تتأثر بالحالة القانونية للشخص المحتجز، لكونه مسلوب الحرية.
ويحق للسجناء التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه[22]، مثل أي مواطن يتمتع بحريته.
فعقاب السجين هو حرمانه من حريته، وليس في إلحاق أي نوع من الأذى به، بل يجب أن تولي الدولة اهتمامًا خاصًّا بالحق في الصحة للسجناء. وبطبيعة الحال،
لا يمكن للسجناء أن يتدبروا أمرهم في حالة مرضهم خلال احتجازهم، وذلك لأنهم معزولون عن العالم الخارجي.
وبالتالي يتوقف حصولهم على الخدمة الصحية اللائقة على جاهزية السجون وإدارتها لذلك، وتقع على عاتق الدولة مسؤولية توفير الخدمات الصحية والبيئة الصحية المناسبة لهم.
وتنص القاعدة رقم ٢٤ من قواعد الأمم المتحدة الدنيا لمعاملة السجناء،[23] على أنه “تتولى الدولة مسؤولية توفير الرعاية الصحية للسجناء، وينبغي أن يحصل السجناء على نفس مستوى الرعاية الصحية المتاح في المجتمع.”
وتعد حالة شادي حبش مثالًا لحالة طبية طارئة كان ينبغي التعامل معها بالاهتمام الفوري المناسب، حتى لا يؤدي تركها إلى مضاعفات خطرة،
والتي وصلت في حالة حبش إلى فقدانه القدرة على الإبصار بحسب شهادة زملائه في الزنزانة، ثم وفاته متأثرًا بالإهمال في تقديم الخدمة الطبية المناسبة في الوقت المناسب.
ويدل التعامل في حالة حبش على وجود فجوة في مستوى الرعاية الصحية المقدمة للسجناء، بالمقارنة بما يحصل عليه الفرد خارجها. فلو أن حبش كان خارج السجن،
وتعرض للتسمم الكحولي، كانت ستكون لديه القدرة على الذهاب إلى مستشفى والحصول على العلاج المناسب في الوقت المناسب، وبالتالي إنقاذ بصره وحياته.
وحق السجناء في الصحة منصوص عليه في التشريع المصري، بما في ذلك الدستور المصري وقانون تنظيم السجون، ولائحة السجون، بالإضافة إلى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان،
والمعايير الدولية المتفق عليها بشأن حقوق السجناء والتي تم إقرارها من الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويمكن تناولها كما يلي:
المعايير الدولية للحق في الصحة للسجناء
ومن قراءةٍ في المعايير الدولية للحق في الصحة للسجناء، يتبين أنه يعتبر مبدأ عامًّا حق السجين في الخضوع لفحص طبي بمجرد دخوله السجن أو مكان الاحتجاز،[24]
ويجب توفير أي علاج طبي ضروري مجانًا.[25] كما يجب أن يتمكن السجناء من حرية الوصول إلى الخدمات الصحية المتاحة في البلاد خارج أسوار السجن[26]. ولا ينبغي اتخاذ القرارات المتعلقة بصحة السجين لأسباب طبية إلا من قِبَل أشخاص مؤهلين طبيًّا.[27]
كما يجب أن يكون في كل سجن مرافق صحية ومقدمو خدمة صحية مناسبون لتوفير مجموعة من الاحتياجات الصحية للسجناء، بما في ذلك رعاية الأسنان والطب النفسي.
كما يجب نقل السجناء المرضى الذين لا يمكن علاجهم في السجن، مثل السجناء المصابين بمرض عقلي، إلى مستشفى مدني أو إلى مستشفى سجن متخصص.[28] ويجب أن يتحمل المسؤول الطبي مسؤولية ضمان تلبية المعايير الصحية المناسبة داخل السجن،
وذلك عن طريق التفتيش الدوري، وإسداء المشورة إلى مدير السجن بشأن مدى ملاءمة الغذاء والماء والنظافة والصرف الصحي والتدفئة والإضاءة والتهوية والملابس والفراش ومدى توافر فرص ممارسة الرياضة للسجناء.[29]
ويجب التحقيق في جميع حالات الوفاة أثناء الاحتجاز واختفاء السجناء من السجون على نحوٍ لائقٍ، حيث يجب أن “تقوم سلطة قضائية أو سلطة أخرى بالتحقيق في سبب الوفاة أو الاختفاء، سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلبٍ من أحد أفراد أسرة ذلك الشخص
أو من أي شخص علي معرفة بالقضية. ويُجرى هذا التحقيق، إذا اقتضت الظروف، على نفس الأساس الإجرائي إذا حدثت الوفاة أو حدث الاختفاء عقب انتهاء الاحتجاز أو السجن بفترة وجيزة. وتتاح عند الطلب نتائج هذا التحقيق أو تقرير عنه ما لم يعرض ذلك للخطر تحقيقًا جنائيًّا جاريًا”.[30]
التشريع المصري وتطبيقه بشأن صحة السجناء
وفي التشريع المصري، فقد كفل الدستور الحالي الحق في الصحة لجميع المواطنين في المادة ١٨ منه، حيث نصت على أنه: “لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة”،
كما نص الدستور في المادة ٥٥ على حق السجناء تحديدًا في الصحة والرعاية اللائقة، حيث نصت على أنه “كل من يقبض عليه أو يحبس، أو تقيد حريته، تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته ولا يجوز تعذيبه،
ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيًّا أو معنويًّا، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة اإنسانيًّا وصحيًّا،
وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة”. كما نصت المادة ٥٦ على أن: “السجن دار إصلاح وتأهيل. وتخضع السجون للإشراف القضائي ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر”.
وجاء تنظيم الأوضاع الصحية للمسجونين في المواد من المادة رقم ٣٣ إلى المادة رقم ٣٧ من قانون تنظيم السجون رقم ٣٩٦ لسنة ١٩٥٦ وتعديلاته
. وجاءت لائحة تنظيم السجون الصادرة بقرار وزير الداخلية رقم ٧٩ لعام ١٩٦١ وتعديلاتها، تفسيرًا لقانون تنظيم السجون، وقد تضمنت ٣٦ مادة خاصة بعلاج المسجونين، تبدأ من المادة رقم ٢٤ وتنتهي بالمادة رقم ٥٩.
ويمكن استخدام اللائحة في التقاضي لتفسيرها نصوص القانون، ولا يجوز مخالفة اللائحة من قِبَل إدارة السجن، ويجوز استخدامها أيضًا لتقديم شكوى إلى نقابة الأطباء ضد أحد أطباء السجن بجانب قانون نقابة الأطباء ولائحة آداب مهنة الطب[31].
ويلاحظ قصور النص القانوني عن ذكر مصطلح حقوق السجناء صراحة[32]، وإن تطرق النص إلى واجبات والتزامات الأطباء ومقدمي الخدمات الصحية والقائمين على إدارة السجون تجاههم، وشروط الإفراج الصحي وغيرها،
إلا أنه يخلو من مدخل حقوقي للسجناء يؤكد على حقهم في الرعاية الصحية التي تكفلها لهم المواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان.
وبخلاف إشكاليات النص القانوني، فإنه توجد مشكلات في الممارسات داخل السجون تؤدي إلى انتهاك حقوق السجناء في الصحة والمعاملة الآدمية طبقًا لتلك المنصوص عليها في التشريعات المصرية بالفعل.
فعلى سبيل المثال، يبدأ الإهمال الطبي داخل السجون مع إغفال الكشف الصحي على السجناء عند إيداعهم لأول مرة، بالرغم من نص المادة ٢٧ من اللائحة الداخلية للسجون على ذلك، مرورًا بعدم توافر الخدمات الطبية ومقدميها وقت الحاجة إليهم،
ووصولًا إلى التشخيص والعلاج الخاطئ، والتباطؤ والتعنت في نقل المريض من أجل تلقي العلاج بالخارج حال وجود الحاجة إلى ذلك، ثم التقاعس عن التحقيق في إلإهمال في علاج السجناء .[33]
يعد طبيب السجن، كما جاء في اللائحة الداخلية للسجون، مسؤولًا عن “الإجراءات الصحية التي تكفل سلامة صحة المسجونين
وعلى الأخص وقايتهم من الأمراض الوبائية ومراقبة صلاحية الأغذية والملابس والمفروشات المخصصة للمسجونين وكفايتها وملاحظة نظافة الورش وعنابر النوم وجميع أمكنة السجن،
وإذا تغيب طبيب السجن يخطر مدير السجن أو مأموره مصلحةَ السجون لاتخاذ اللازم نحو انتداب أحد أطباء وزارة الصحة للقيام بالأعمال بدلًا منه،
ويجوز له استدعاء طبيب وزارة الصحة مباشرة في الأحوال المستعجلة”. كما أن طبيب السجن هو المسؤول باتخاذ أمر نقل المريض إلى مستشفى السجن،
كما يجب عليه أن يزور كل مسجون محبوس حبسًا انفراديًّا يوميًّا، وأن يعود كل مسجون من غير هؤلاء مرة في الأسبوع على الأقل ليقف على حالته من حيث الصحة والنظافة.
كما تنص المادة ٣٧ من اللائحة الداخلية للسجون، على أنه “إذا لم تتوافر أسباب علاج المسجون بمستشفى السجن،
ورأى طبيب السجن ضرورة علاجه بمستشفى خارجي، وجب قبل نقله عرض الأمر على المدير المساعد العلاجي بمديرية الشؤون الصحية المختصة،
لفحص الموضوع مع طبيب السجن، وترفع النتيجة إلى الإدارة الطبية بمصلحة السجون، لتقرير ما تراه”،
وتنص المادة ذاتها على أنه “…لطبيب السجن أن يأمر بقبول الأدوية التي تَرِد للمسجون من الخارج إذا رأى ضرورة صحية لذلك”.
ومن مشكلات النص القانوني في مسألة الحقوق الصحية للسجناء، عدم النص على ضرورة وجود عدد أطباء كافٍ في السجون ووجود أطباء متخصصين في كافة التخصصات الطبية،
حيث أنه تقرر طبيب واحد أو أكثر لكل ليمان أو سجن عمومي ولم ينص صراحة على أن يكون بكل سجن العدد الكافي من الأطباء بحيث تتناسب أعداد الأطباء مع أعداد السجناء بكل سجن كي يستطيع الطبيب القيام بمهامه على النحو الأمثل.[34]
وعن السجون المركزية، فقد أجاز القانون عدم تعيين طبيب للسجن المركزي على الإطلاق ونص على إمكانية ندب طبيب من الخارج للقيام بأعمال الطبيب.
ذلك في حين أنه من المفترض أن “تكفل جميع السجون إمكانية الحصول الفوري على الرعاية الطبية في الحالات العاجلة،
أما السجناء الذين تتطلب حالتهم عناية متخصصة أو جراحة فينقلون إلى مؤسسات متخصصة أو مستشفيات مدنية،
ومن الواجب حين تتوفر في السجن دائرة خدمات طبية خاصة به تشتمل على مرافق مستشفى، أن تكون مزودة بما يكفي من الموظفين والمعدات لتوفير خدمات العلاج والرعاية المناسبة للسجناء المحالين إليها.”[35]
ويكشف واقع السجون في مصرعن وجود نوعين من الأطباء داخلها؛ أطباء ضباط، وهؤلاء يمتلكون قدرًا من السلطة داخل السجن؛ وأطباء مدنيين، لا ينتمون إلى سلك الشرطة لكنهم يعملون بنظام العقود،
وهؤلاء لا يمتلكون المشروعية الكافية أمام إدارة السجن في الممارسة، وتعتبر آراؤهم استشارية إلى حد كبير.[36] كما أن لائحة السجون تعطي قدرًا كبيرًا من الحرية لإدارة السجن في عدم القبول بتوصيات أطباء السجن،
حيث نصت المادة ٣٣ من لائحة السجون في فقرتها الأولى بوجوب تنفيذ مأمور السجن أو مأموره بما يشير به طبيب السجن فيما يختص بتعديل معاملة أو غذاء مسجون وفق ما تستدعيه حالته الصحية،
والنص في المادة نفسها في فقرتها الثانية على أنه من حق مدير السجن أو مأموره عدم الموافقة على توصيات طبيب السجن ورفع الأمر إلى لجنة لدراسة ذلك، وبالتالي أُفرغت المادة من مضمونها وقد يتعرض السجين نتيجة لذلك لتدهورحالته الصحية.
ووثقت دراسات سابقة شيوع ثقافة التعامل مع المساجين بعنف واحتقار داخل السجن، ونظر أغلبية الأطباء إلى السجناء “كمجرمين لا يستحقون المعاملة الإنسانية”، [37]
وبالتالي لا يصدقون شكواهم أو احتياجهم للرعاية الطبية. بالإضافة إلى ذلك، هناك مشكلة عدم تواجد الأطباء في مواعيد منتظمة معلنة، خاصة الاستشاريين والاختصاصيين،
كما أن تواجد الطبيب المناوب ليس مضمونًا طوال الوقت، وفي حالة تواجده قد يكون حديث التخرج أو قليل الخبرة، وقد لا يكون مؤهلًا بالشكل الكافي الذي يؤهله لتشخيص الطارئة الطبية والتعامل السريع معها،
كما رأينا في حالة حبش الذي تم عرضه على اثنين من الأطباء فشلا في التعامل مع حالته الطارئة، كما أنه اضطر إلى انتظار حضور الطبيب المناوب فترة طويلة.
وأوضح تقرير سابق[38]، أنه من الممكن ألا يتم فتح أبواب الزنزانة مرة أخرى بعد “تمام السجن”، وهو المصطلح المتعارف عليه لوقت إغلاق الزنازين، مهما تعالت أصوات الاستغاثة ودقُّ المساجين على الأبواب لاستدعاء الحراس،
وإذا حدث وتم إيصال السجين ذي الحالة الطارئة إلى عيادة السجن، فلن يحصل على أكثر من مسكِّن ويتم إيداعه مرة أخرى الزنزانة،
كما حدث في حالة حبش، حيث اكتفى طبيب السجن بإعطائه مضادات التقلصات والقيء في كل مرة من مرات ثلاث ذهب فيها إلى الطبيب، رغم تدهور حالته ومعرفة الطبيب لتناوله قدرًا من الكحول.
أما إذا احتاج المريض إلى علاج في مستشفى مجهز خارج السجن، فيجب أن يتم التنسيق بين ثلاث جهات حتى يخرج السجين لتلقي علاجه، وهي مصلحة السجون،
إدارة السجن، إدارة الترحيلات، ويضاف إليها جهة رابعة هي الأمن الوطني في حالة المساجين السياسيين. ففي بعض الأحيان يتدخل قطاع الأمن الوطني صراحة في عملية النقل إلى المستشفى خارج السجن.[39]
وتمثل تلك الإجراءات خطرًا كبيرًا عند وجوب نقل السجين لتلقي العلاج بمستشفى مجهز خارجي لحالة طبية طارئة، حيث طول وتعقيد الإجراءات واستلزام أكثر من موافقة قد يؤدي إلى تفاقم حالة كثير من المرضى السجناء، وقد يؤدي ذلك إلى الوفاة.
وكما رأينا في حالة حبش، طبقًا لبيان النيابة العامة، فإن الطبيب في المرة الرابعة كان قد شرع في إجراءات ترحيل حبش، قبل أن تلحقه المنية، وربما لو كان الأمر ليس بهذا التعقيد، كان من الممكن أن يطلب الطبيب عربة إسعاف لنقله، ويتم إنقاذ حياته.
إهمال إدارة السجن في علاج شادي حبش، وفي الرقابة على مستلزمات التطهير بالسجن، قد يرقَى إلى القتل الخطأ
تدفع مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى أن إهمال إدارة السجن في علاج حالة شادي حبش قد يرقَى إلى القتل الخطأ،
بالإضافة إلى تواجد شبهة جنائية تتعلق بالملابسات التي أدت إلى وجود الكحول الميثيلي بحوزته بغرض استخدامه في التطهير اللازم للوقاية من فيروس (كورونا)
. لم يتم فقط انتهاك حق حبش في الصحة كسجين ومواطن مصري، تمثَّل في الفشل في تقديم الخدمة الصحية اللائقة لحالته الطارئة ونتج عن ذلك وفاته،
ولكن أيضًا تم انتهاك حقه في بيئة صحية آمنة، حيث أدى الإهمال والفساد في الإشراف الطبي والرقابي على السجون،
إلى التسبب في وجود مُنتج سام غير صالح للاستخدام الآدمي مع السجناء، وهو الكحول الميثيلي الذي تناوله حبش، معتقدًا أنه الكحول الإيثيلي المستخدم في التطهير والذي يستخدم أيضًا في صناعة المشروبات الكحولية.
وكما ذكرنا سابقًا في هذا التقرير، فإن الكحول الميثيلي لا يستخدم في التطهير على الإطلاق، ولا يوجد مسوغ قانوني أو منطقي لتواجده بحوزة السجناء. ويذكر أن السجناء في مصر كانوا ممنوعين من الزيارات الخارجية بسبب إجراءات الوقاية من فيروس كورونا المستجد.
وتدفع بعض منظمات حقوق الإنسان بأن مسؤولية أطباء السجن في حالات الإهمال الطبي داخل السجون، قد تعتبر قتلًا بالامتناع، وليس فقط القتل الخطأ.
“من الممكن أن يتم توصيف الإهمال الطبي الذي يتسبب في وفاة مسجون على أنه قتل خطأ وذلك إذا كان ناشئًا عن رعونة الطبيب أو عدم احترازه أو عدم مراعاته القوانين والقرارات واللوائح والأنظمة فيتسبب ذلك في الوفاة نتيجة الإهمال.
ولكن من الممكن اعتبار وفاة السجين جريمة قتل بالامتناع، وذلك بأن يكون النشاط في الجريمة سلوكًا سلبيًّا ويتمثل في الامتناع والنكوص عن التدخل للحيلولة دون حدوث النتيجة وهي الوفاة، والرأي الراجح في الفقه يتجه إلى المساواة بين النشاط الإيجابي والنشاط السلبي،
أي أنه يؤيد وقوع القتل بالامتناع، وذلك في حالة وجود التزام قانوني أو اتفاقي بالقيام بفعل معين يمنع حدوث الوفاة. فإدارة السجن التي تمتنع عن علاج سجين مريض بمرض خطر قد ترتكب جريمة قتل بالامتناع”.[40]
٣- تاريخ من حالات الوفاة والإهمال الطبي في السجون
تعتبر قضية شادي حبش دليلًا على فساد إدارة السجون في مصر وعلى مقدار الخطر الذي يحيط بكل السجناء بلا استثناء، في ظل غياب الطرق القانونية التي تمكِّن الأهالي والسجناء أنفسهم من التقدم بشكاوى أو المطالبة بحقوقهم، ولكنها لم تكن الأولى.
وفاة حبش هي الثالثة في عنبر رقم ٤ بسجن طرة في أقل من عشرة أشهر، حيث توفي السجين مصطفى قاسم، والسجين عمر عادل قبله.[41]
عمر عادل: في ٢٢ يوليو، ٢٠١٩، قبل وفاة حبش بستة أشهر تقريبًا، توفي السجين عمر عادل – ٢٩ عامًا، بعد أيام من سجنه في “زنزانة تأديبية” انفرادية؛ على الرغم من علم سلطات السجن بأن حالته البدنية والنفسية ستعرض حياته للخطر إذا وضع في الحبس الانفرادي
.[42] كان عادل محكومًا عليه بالسجن عشر سنوات في القضية رقم ٢ لسنة ٢٠١٦ أمام محكمة شمال العسكرية.
وكان لدى عادل تقرير طبي يفيد بأن لديه مشكلة في الجهاز التنفسي، بالاضافة إلى زيادة في الوزن تسبب له مشاكل في التنفس، ما يعني أنه يستوجب عناية طبية وظروف احتجاز ملائمة لحالته.
وكان رئيس مباحث السجن على علم بذلك التقرير الطبي قبل أن يودع في التأديب. استنجد عادل بإدارة السجن ليسمحوا له بالخروج من الحبس الانفرادي ولم يسمحوا له حتى وفاته. [43]
مصطفى قاسم: في ١٣ يناير ٢٠٢٠، توفي مصطفى قاسم – ٦٤ عامًا، داخل سجن طرة. كان قد قبض عليه في ٢٠١٣، وصدر الحكم ضده بالسجن المشدد ١٥ عامًا في القضية التي عُرفت إعلاميًّا بفض اعتصام رابعة،
وبدأ إضرابًا عن الطعام حتى ساءت حالته قبل أيام من وفاته. كما كان قاسم مريضًا بالسكر، ولم توفر له إدارة السجن الرعاية الطبية الملائمة لمرضه المزمن ولا لحقيقة إضرابه عن الطعام، رغم إرساله استغاثات إلى خارج السجن، ومنها إلى الإدارة الأمريكية.[44]
ورغم أن هناك توسعًا في بناء السجون في مصر بعد عام ٢٠١٤، فإن جاهزية السجون لعلاج السجناء لم تتغير. حيث وثقت عدة منظمات تزايد حالات الوفاة داخل السجون المصرية منذ ذلك الوقت، تصل في بعض التقديرات إلى المئات.
يحكي أحمد _اسم مستعار_[45]عن تجربته في سجن الجيزة المركزي (سجن الكيلو عشرة ونصف)؛ وهو أحد السجون المركزية التي بدأ إنشاؤها في عام ٢٠١٤ مثل سجني ١٥ ماي