- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
جعفر عباس يكتب: جنرالان في متاهة
جعفر عباس يكتب: جنرالان في متاهة
- 29 أبريل 2023, 3:14:32 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هناك مثلٌ يقول ما معناه؛ إن وجود قبطانين على مركب يؤدي إلى غرقه. وظل سودان اليوم، ومنذ نيسان/ أبريل 2019، تحت سيطرة الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، ونائبه في رئاسة المجلس قائد الدعم السريع، الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي). والبرهان هو الذي أهدى ذلك المنصب الدستوري الرفيع لحميدتي، بدون سند دستوري أو منطقي، وسمح له بزيادة عديد قواته من نحو 20,000 إلى نحو 120,000، واستيراد الأسلحة والذخائر من مصادره الخاصة بلا رقيب أو حسيب، وأخلى له مباني حكومية في قلب العاصمة السودانية، من بينها المقر التاريخي لسلاح المظلات، وأبراج كانت تتبع لجهاز المخابرات والأمن، ومساحات شاسعة في أطرافها ليتخذ منها معسكرات لجنوده.
وكان حميدتي بموازاة كل ذلك، يتولى تصدير الذهب إلى روسيا وغيرها عبر قنواته الخاصة، حتى راكم المليارات بعملات شديدة الصعوبة، واحتكر هو وأقاربه من الدرجة الأولى المناصب الرفيعة في قوات الدعم السريع، وإدارة عائدات تصدير وتهريب الذهب.
طوال السنوات الأربع الماضية، ظل البرهان المحامي الأول عن قوات الدعم السريع، في وجه الاحتجاجات الداوية، على وجود جيش مواز تسيطر عليه عائلة دقلو وعلى رأسها نصف الأمي حميدتي، الحاصل على رتبة فريق أول، وشقيقه عبد الرحيم الذي قنع برتبة فريق. واعتلى البرهان عديد المنابر ليقول؛ إن تلك القوات خرجت من رحم الجيش الوطني، وأنها من ثم فصيل وجزء أصيل منه، فإذا بسكان العاصمة السودانية المثلثة (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان) يستيقظون فجر يوم 15 نيسان/ أبريل الجاري، على هدير المجنزرات والطائرات، وهي تلقي الحمم على معسكر لقوات الدعم السريع جنوب الخرطوم، وعلى زمجرة الناطق باسم الجيش السوداني وهو يقول؛ إن الدعم السريع مليشيا عائلية، وأنها متمردة ولا بد من تدميرها تماما.
طوال السنوات الأربع الماضية، ظل البرهان المحامي الأول عن قوات الدعم السريع، في وجه الاحتجاجات الداوية، على وجود جيش مواز تسيطر عليه عائلة دقلو وعلى رأسها نصف الأمي، حميدتي، الحاصل على رتبة فريق أول، وشقيقه عبد الرحيم الذي قنع برتبة فريق. واعتلى البرهان عديد المنابر ليقول؛ إن تلك القوات خرجت من رحم الجيش الوطني، وأنها من ثم فصيل وجزء أصيل منه.
ومجريات المعارك خلال الأيام القليلة الماضية في الخرطوم وغيرها، تثبت أن كلا من البرهان وحميدتي كان يعد العدة للغدر برفيقه، ففي غضون ساعات من بدء الاقتتال، كان كل طرف قد شرع في تنفيذ أولوياته القتالية، فبينما شرعت القوات المسلحة في دك بعض معسكرات الدعم السريع في أطراف المدينة، قام الدعم السريع بالسيطرة على مطار الخرطوم الدولي، والقيادة العامة للجيش الوطني، والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ومطار الخرطوم الدولي، وعدد من الجسور والمواقع الاستراتيجية. واتضح أن اجتياح الدعم السريع لتلك المواقع لم يأت بعد دحر قوات الجيش فيها، بل تم بكل سلاسة وبدون إطلاق نار، ذلك أن البرهان كان قد أوكل حراسة عدد من المواقع المهمة في العاصمة للدعم السريع، دون غيرها من القوات.
وشكل خضوع تلك المواقع لسيطرة قوات حميدتي هزيمة معنوية للبرهان، ومن أكبر اللطمات التي تلقاها البرهان، أن عددا من كبار ضباط الجيش السوداني، ومن بينهم المفتش العام للجيش (وهو المنصب الذي كان البرهان يشغله حتى دخل مجال السياسة والحكم في نيسان/ أبريل من عام 2019)، وهو برتبة فريق، وقع في أسر قوات الدعم السريع، مما يشي بأن حسابات البرهان في الدخول في معركة مع قوات الدعم السريع كانت خطأ، وأنه لم يعد العدة للمعركة كاملة، ربما بحسبان الأمر لن يستغرق سوى بضع ساعات.
بغض النظر عمن أشعل الشرارة الأولى للحرب الدائرة في السودان الآن، فلا شك في أن البرهان مسؤول على الأقل عن توصيل البلاد إلى محطة الحرب؛ لأنه ظل الراعي الرسمي لقوات الدعم السريع، ذات السمعة والسيرة والمسيرة التي تنضح بالسوء والدم، منذ اليوم الأول الذي قامت فيه حكومة الرئيس السوداني السابق عمر البشير بتشكيلها، بحسبان أن اسما يتم الرمز إليه بـ"ق. د. س" (قدس) سينضح بـ"القداسة"، ويستر ممارسات تلك القوات عندما كانت تحمل اسم الجنجويد، وأشبعت أهل إقليم دارفور قتلا وتشريدا.
ولم يدرك حميدتي أنه دخل في متاهة لا يملك استراتيجية للخروج منها، وهو يدخل القصر الجمهوري "واثق الخطوة يمشي ملكا"، فتضَخّم الأنا جعله يحس بأنه مؤهل ليكون الرجل الأول في حكم البلاد، وبموازاته كان هناك البرهان الذي أدرك أن حميدتي يهدد طموحاته التي غرستها رؤية منامية لوالده بأنه سيحكم السودان يوما ما. وهكذا التقى الجيشان في الخرطوم، وخلال الأيام العشرة الأولى من حربهما، سقط 512 قتيلا أي بواقع 51 قتيلا يوميا (هؤلاء هم من وصلت جثامينهم إلى المستشفيات، بينما هناك جثث في وسط الخرطوم، تحللت لأنها ظلت ملقاة في الشوارع وداخل السيارات المحترقة لعدة أيام).
لم يدرك حميدتي أنه دخل في متاهة لا يملك استراتيجية للخروج منها، وهو يدخل القصر الجمهوري "واثق الخطوة يمشي ملكا"، فتضَخّم الأنا جعله يحس بأنه مؤهل ليكون الرجل الأول في حكم البلاد، وبموازاته كان هناك البرهان، الذي أدرك أن حميدتي يهدد طموحاته التي غرستها رؤية منامية لوالده بأنه سيحكم السودان يوما ما.
وما يحيّر كل ذي لب، هو أن البرهان وهو رأس الدولة وقائد الجيش، لم يخرج على شعبه بكلمة حول لماذا يحدث ما هو حادث، وما هي مآلات الحرب، وأتى ببيان يهنئ فيه الشعب بالعيد ثم يقول كلاما إنشائيا شديد التعميم والتعمية عن مجريات الأمور، ومع هذا يلبي دعوات قنوات التلفزة ويقول لها كلاما مستهلكا عن أن الدعم السريع مليشيا متمردة ولا بد من سحقها، وما هو أغرب من كل ذلك، هو أنه لا يملك جوابا على السؤال: لماذا قائد هذه المليشيا ما زال يحتفظ بمنصبه نائبا لرئيس مجلس السيادة؟
ثم جاء الإفراج عن سجناء من كبار رموز حكومة عمر البشير، كانوا يخضعون لمحاكمات، ومعهم عدد من جنود وضباط جهاز الأمن، محكوم عليهم بالإعدام لقتلهم بعض المتظاهرين في سياق الحراك الشعبي، الذي أدى إلى سقوط حكم الإسلاميين برئاسة عمر البشير، وعزز ذلك الشكوك بأن ضباط الجيش الإسلاميين هم من أشعلوا الحرب على الدعم السريع، الذي لم يغفروا له دوره الحاسم في إسقاط حكمه.
وعلى كل حال، فصمت البرهان أو استحياؤه من مخاطبة الشعب كرئيس لمجلس السيادة، يعزز الشكوك بأنه ليس سيد قراره، وما يقوي هذه الشكوك أن رئيس دولة جنوب السودان أعلن أن البرهان قَبِل لقاء حميدتي في مدينة جوبا للتفاوض حول إنهاء الحرب، وما إن تناقلت أدوات الإعلام هذا النبأ، حتى صدر بعدها بدقائق قليلة جدا بيان مقتضب باسم الجيش يقول بالحرف الواحد: "البرهان لن يسافر إلى أي وجهة خارجية في الوقت الحالي"، ثم أصدرت وزارة الخارجية بيانا قالت فيه: "لا تفاوض ولا صلح مع الدعم السريع".
حشر البرهان نفسه في متاهات مرارا، وظل يمارس الكذب والنكث بالعهود في كل منعطف يحس فيه بأنه مهدد بفقدان مناصبه، وفي اكتشافه المفاجئ بأن الدعم السريع مليشيا قبلية، يروى أن فوزية عاشت في بحبوحة مع زوجها الثري، مصطفى لعشرين سنة، ثم أفلس الزوج وصار عاجزا عن الإنفاق على البيت، وذات يوم قريب نظرت فوزية إليه وسألته: من متين (منذ متى) أنت أعور يا مصطفى؟