- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
حلمي الأسمر يكتب: غزة وتركيا والقمح والبندورة
حلمي الأسمر يكتب: غزة وتركيا والقمح والبندورة
- 24 ديسمبر 2021, 4:54:12 م
- 641
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هل سأل أحدُنا نفسه: لماذا لم يصنع العرب (الأغنياء تحديدا) سيارة أو هاتفا خلويا، أو دبابة أو حتى بندقية صيد؟ لم أهدرت الأنظمة العربية تريليونات الدولارات على شراء البضائع من بلاد الآخرين، وهي قادرة فعلا، لو أرادت، أن تنتج سلعها بعقول أبنائها؟
أذكر في إحدى زياراتي السودان أن حسن الترابي أيام كان في السلطة روى لنا أنه عرض على الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، زراعة الأرض السودانية، حيث وفرة الماء بالقمح، حتى تكتفي مصر من هذه السلعة الإستراتيجية، ولا تعتمد على القمح الأميركي المستورد، وكي لا ترهن قرارها بيد من يصدّره، فقال له مبارك حينها بالحرف: أمريكا مترضاش.
وقل مثل هذا تقريبا عن تجربة السعودية مع هذه السلعة، فقد مرّ وقتٌ كادت أن تكتفي من القمح والشعير إن لم تكن اكتفت فعلا، بعد أن بدأت زراعتها، ثم، فجأة، عادت إلى الاستيراد وكفّت عن الزراعة، بعد أن قيل إن كلفة المستورد أقل من كلفة المزروع محليا، فضلا عن أن الزراعة تستهلك مخزون البلد من المياه الجوفية. وهذا بالتحديد كان اقتراح الكاتب الاقتصادي الأردني فهد الفانك، في إحدى مقالاته قبل سنوات، على الأردن الكفّ عن زراعة البندورة والخيار وبقية الخضروات، للحجّة نفسها التي صرفت صاحب القرار في بلاد الحرمين عن زراعة القمح والشعير، حيث كتب أن استيراد بعض السلع والخضروات أرخص من كلفة إنتاجها. وأذكر يومها أن دعوة الفانك ووجهت بعاصفة من الرفض، فمن هو العاقل الذي يرهن طبق غذائه اليومي بيد الآخر، ويستورد ما يأكل حتى ولو كان أقل كلفةً مما يزرع؟ من هذا الوطني "الجريء" الذي يرضى أن يكون قرار إشباعه أو تجويعه مع الآخر، فما لك بمائه وغازه ووقوده؟
تقوم السياسة العربية الممنهجة على طرد الكفاءات وتهجير العقول، وعدم تصنيع شيءٍ ذي بال، والاعتماد بشكل كامل على الاستيراد من الخارج، كي يبقى البلد رهينةً بيد الآخرين. لا ينقص العرب مال ولا عقول ولا عباقرة لإحداث ثورة في بلادهم. بدأت النهضة اليابانية مع بداية نهضة مصر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كلا البلدين بدأ في وقتٍ واحد، مصر رجعت إلى الوراء مائة عام، واليابان غزت سلعها الكرة الأرضية، والسبب عدم وجود قرار في مصر، ووجود هذا القرار في اليابان، علما أن هذا البلد بلا أي موارد طبيعية سوى الإنسان، وكل مستلزمات الإنتاج فيه مستوردة!
لهذا تجد النظام العربي الرسمي ناقما على غزة، ومن قبل على تركيا.. أكثر من نقمته على الكيان الصهيوني، بل بالتأكيد هو ينقم على هذا الكيان لأنه لم يستطع أن يكسر غزّة. .. أما غزة فقد كشفت سوأة العرب المستسلمين للآخر، ممن رهن قراره بيد الغريب، وسلم رقبته للمستعمر، غزّة التي يحاصرها العدو والجار برّا وبحرا وجوا أنتجت "سلعة" رفعت رأس أحرار العرب إلى السماء، فطاولت قاماتهم السحاب، صنعت سلاح الكرامة والكبرياء، الذي دوّخ كيانا دوّخ كل كيانات العرب، بإمكانات مخارط الحديد، وعقولٍ عربيةٍ بحتة. لهذا كان النظام العربي أشدّ عداء لغزّة من كيان العدو الذي انتظر منذ سنين عدة، وعدد كبير من الاعتداءات ونحو خمس حروب، أن يرى غزّة ترفع الراية البيضاء من دون طائل. وفي كل مرة كان العدو يضع الأهداف نفسها وفي كل حرب، من دون أن يحقق أيا منها!
في تعليقٍ طريف لأحدهم، بعد إحدى الحروب التي خاضتها غزّة، ليس نيابة عن فلسطين كلها ولا الأمة بأسرها، بل نيابةً عن جميع المتضرّرين من هذا الكيان المتوحش في العالم كله، كتب أحدهم قائلا إن فلسطين (المحتلة فعلا) ليست محتلة في الواقع، بل هي البلد العربي الوحيد الحر، وسط وطن عربي محتل!
رضيت أميركا أم لم ترض، غزّة لا تصنع مستقبلها فقط، بل مستقبل هذه الأرض المبتلاة بالمؤامرات والمتآمرين من أبناء جلدتها. غزة وحدها لا تستطيع أن تكسر العدو، لكن يكفيها فخرا أنها تأبى أن تنكسر أمامه، وهي بهذا تحافظ على راية الجهاد مرفوعةً في منأىً عن أي خيانة لله ولرسوله ولعامة المؤمنين.
أما حكاية تركيا، فقصتها تطول، فهي لم تزل هدفا للتآمر من القريب والبعيد، لأنها سلكت طريقا مختلفا عن طريق النظام العربي الرسمي. وحاولت ولم تزل بناء دولة حقيقية مستقلة عن الارتهان للآخر، وقد نجحت في تحقيق الكثير وأمامها الكثير لإنجازه، والأهم أنها بدأت، فيما لم نر بلدا عربيا واحدا وضع قدمه على الطريق الصحيح.
* حلمي الأسمر كاتب صحفي من الأردن