- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
رضا طاهر الفقي يكتب: الهروب الي واحة الغرباوي المجهوله
رضا طاهر الفقي يكتب: الهروب الي واحة الغرباوي المجهوله
- 20 فبراير 2023, 1:43:45 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كان غاية حلمه أن يقود مسيره أخلاقيه ، يؤوي فيها لاجئا أو يشفي بها مريضا، أو يؤمن بها ملهوفا.. كان يريد فرصه واحده لأحاسيسه أن تري النور لأنها النور الذي يبدد ظلام العالم المملوء بالشرور والأحقاد هكذا كان النبيل الراقي الشاعر/ محمد عبد المنعم الغرباوي ، الذي كانت أول معرفتي به في احد المكتبات في قريتي ، كان ينتظر صوره من احدي رسائل الماجستير التي تناولت شعره بوصفه آخر شعراء مدرسه أبوللو ،وقرأت بعض من أجزاءها ، إلا أنني علي الفور، وجدت قلمي يكتب عنه ، وعن الرقي في إبداعه وذهبت إليه في منزله متوجسا خيفة مما كتبت إلا انه علي الفور مسح علي ظهري في حنان الآباء النبلاء ، وصارت بينا صداقه قويه كان هو في عقده التاسع وأنا تقريبا أتخطي عقدي الثاني بسنوات قليلة ، واستمرت الصداقة تسعة أشهر انتهت بوفاته ،ولكنها كانت بالنسبة لي عمرا كبيرا ، لقد تعلمت منه الكثير والكثير تعلمت منه الثبات علي المبدأ وكانت سعادتي بلقائه عصر كل يوم ، حينما كنت اذهب إليه ونجلس في منزله الذي كان كشخصه رائعا جميلا ،وكنت اقرأ له الجرائد لضعف بصره سمعت منه عن تاريخ قريتي تاريخ الصعود ،و الهبوط التي تحكمه قوانين التاريخ تكلم عن نبل الأقدمين ، وصارت بينا صداقه لاتعرف التناسب في الأعمار لأن الصداقة لا يحكمها تناسب الأعمار، ولكن تآلف الأرواح هو الاقوي ، قص علي الكثير من حكايات عمره الذي كان كله كفاحا أخلاقيا من اجل أن يسود العدل والإخاء واذكر واقعه شهيرة حدثت في قريتنا في عام 1947 ،وهو أن اجتاح وباء الكوليرا القرية ماذا يفعل الشاعر المرهف الإحساس سار علي قدمه متنقلا بين شوارع القرية وأزقتها مواسيا للجميع ؛وراعيا للمرضي إلا أن شيئا ما هاله ؛ هو أن أحد الأطباء الأثرياء جاء إلي أبناء عائلته بالأمصال ،وترك فقراء القرية إلا أنه أرسل برقيه له هذا نصها " السيد الدكتور/.... بلدتك المنكوبة بعقوق الأبناء.. تحترق بالوباء ..فأين أنت يا ابن شها البكر" فجاء الطبيب الذي استيقظت إنسانيته إلي القرية ليعالج الفقراء ،وساهم فى القضاء علي الوباء ،- وأسرد واقعه أخري حينها كان رئيسا لمجلس قروي بلقاس خامس " دميانه " حينما اختصم عند ه مالك أرض وأجير فساوي بينهما في عدل المجلس الأمر الذي امتعض له الإقطاعي إلا انه لقنه درسا في المساواة بين الناس ، فكان لذلك بالغ الأثر في حب أهل القرية له، والتي قد ذهبت إليها لزيارة دير القديسة دميانه عام 2007 ،وقلت لهم إنني من قرية الغرباوي فوجدت بعبارات الثناء والترحم عليه من مسيحي القرية ومسلميها - انه الشاعر النبيل / محمد عبد المنعم الغرباوي الذي ولد في الحادي والثلاثين من يوليو عام 1912 في قرية شها مركز المنصورة- دقهليه وتوفي بها في الحادي عشر من ديسمبر عام 2002 عن عمر يناهز التسعين عاما والذي قضاها في السمو بالمجتمع والناس فازداد انغماسا في حياة الريف في كل رحلته الحياتية
فكان مثالا راقيا للشاعر الذي يطلق أفكارا مفيدة للناس ، أو ينجز أعمالا مفيدة للمجتمع ، ولا ينتظر جزاءا من احد يهتدي بهدي أفكاره، وأعماله ولكنه المثقف الذي يحاول أن يحقق أفكاره ومبادئه ؛ وسط الناس ليخدمهم وينفعهم ، الغرباوي كانت له نفس رومانسيه تحتوي الكون من ناحية كما تشعر أنها مركز الكون من ناحية أخري، وهي في طرفها المحتوي للكون تنشد ذلك الحلم بان يكون الكل جسدا واحدا كما أنها في طرفها الذي تستشعر أنها مركز الكون تطمع في حضن المجموع فتفاجئه أشواك ذلك الحضن فتجعل هذه الأشواك الغرباوي يهرع إلي واحته المجهولة ، ومن واحته المجهولة إلي حضن الطبيعة البكر فيمشي في الحقول ويري شجرة القطن ، وقد أينع ثمرها فهو ينظر إليها ، وكأنها تجسد أمام عينه عالمين عالم الحلم ، وعالم الواقع المرير عالم الحلم أن تعطي للفلاح ثمرة جده واجتهاده ،ولكنه يلمح عالم الواقع يصارع عالم الحلم فهو يري أن الفلاح العاري يزرع ولا يجني من ثماره إلا التعب ، والتقلب علي الأشواك أشواك الفقر والديّن والمرض ، فمأساة الغرباوي ليست في عدم إدراكه للمحيط به ،ولكنها تكمن في إدراكه الكامل للقصة كاملة ،فهو يلمح في شجرة القطن قصة الصراع القائم.. فهذه الشجرة التي تكسو الأجساد العارية مصيرها في النهاية أن تكون عارية فهو يخاطب شجرة القطن فيقول :
رواك مــن دمـــــه وبـل ثــراك
وغـــــذاك صيب دمـعه وسقاك
يا بنت عاري المنكبين ترعرعي
فعسي أراك وقـــد كسوت أبـــاك
وعلي الجانب الآخر يرينا الغرباوي مشهد أناس تصحرت قلوبهم وماتت إنسانيتهم فهم في كل عصر المنافقين الأفاقين والذين يأكلون علي كل الموائد فيقول :
كأنهم بعــد عكــــاف علي صنم
في الجاهليــة ماض البطش فعال
من لي بفأس الخليل اليوم أحطمه
وحبــــذا النار إني نارهم صال
علام تقــــديس افاك لو انكشفت
عنه المظاهر أبـــدت شبح مغتال
هكذا كان الغرباوي يحيى حائرا بين عالم راقي وعالم اقل ما يقال عنه انه ظالم ، واحته المجهولة التي نقصدها هي روحه التواقة الحالمة فقد عرف من البداية القصة كاملة من عبر التاريخ " الذي يسعده المال فهو واهم فبورصة الذهب والفضة لا تثبت علي حال وإذا كانت السعادة في تصفيق الآخرين ،فالآخرين يغيرون آراءهم كل يوم ، والسلطة كالأسد أنت اليوم راكبه وغدا أنت مأكولة ، كان سلاحه في الحياة الحب للنهوض بالإنسان والمعذبين في الأرض وقد اختار الغرباوي "غادة الريف" رمز الحب لان الانثي عنده من بدايتها إلي نهايتها عطاء ونجده ساميا في حبه فهو يخاطبها :
ماذا تخافين إني في الهوى ملك
لاتحسبي أنني يا غـادتي بشــر
إني سمــــاء طهور لا يطاولها
رجس التراب ولا يعلو لها كدر
آمنت بالحب يسمو في طهارته
فما اعتذاري لدي قوم به كفروا
إن الغرباوي أحب علي طريقه الصوفي الأكبر ابن عربى الذي كان قلبه مرعي لغزلان ، ودير لرهبان ، ونار لمجوسي، وقبلة لمسلم إلا أنها المحن كانت تقابله محنه تلو الأخرى حتى جعلته يهرع الي واحته دائما مترفعا عن ديانا البشر ...