- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
ساري عرابي يكتب: حول المشروع السياسي للمقاومة الفلسطينية
ساري عرابي يكتب: حول المشروع السياسي للمقاومة الفلسطينية
- 18 يوليو 2023, 3:33:47 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
النقاشات حول المشروع السياسي الذي ينبغي أن يصير إليه الفلسطينيون، أو الذي ينبغي أن تُربط به حلقاتهم الكفاحية.. لا يخلو من سوء فهم، لا سيما إن أبدى بعضنا تحفّظاً على بعض ما يُطرح من أفكار بهذا الخصوص. قد يعتقد ذلك البعض أن دافع التحفّظ على تلك الأطروحات السياسية؛ هو نزعة عسكرتارية، أو ضرب من العدمية السياسية، أو نوع من الخلاص التطهّري بالمقاومة الناجم عن اليأس السياسيّ، مع أنّ الدافع قد يكون على الضدّ تماماً من تلك الاعتقادات، ومعبّراً عن واقعية صِرفة.
الأطروحات التي يجري عرضها في كلّ نقاش، هي هي، فقط يعاد تدويرها، وربطها بالمحطّات الكفاحية المتتابعة، من قبيل تصوّر البعض إمكان تحرير الضفّة الغربية بالمقاومة الذاتية الجارية في أفق منظور (وهو ما نناقشه في هذه المقالة)، أو صعود البعض لأطروحات سياسية بعيدة كالدولة الواحدة، أو حتّى حلّ الدولتين. بغض النظر عن الأسس السياسية التي يمكن لنا أن نستند إليها في تقليب هذه الأفكار، فإنّ المشكلة التي نحن في صددها هي في كون هذه الأفكار تهويماً نظريّاً منفصلاً عن الواقع والتاريخ.
استعصاء قضيتنا، نحن الفلسطينيين، حتى الساعة، لم ينجم عن قصورنا النظريّ إزاء هذه العناوين الكبرى، بل على العكس، قد يكون الإسراف في رفع الشعارات الكبرى من أسباب أزماتنا المتتالية (ليس هو السبب الأهمّ بالتأكيد). والأمر ذاته يمكن قوله عن كون المسألة ليست في طمأنة مجتمع المستوطنين ورعاتهم الدوليين حول نوايانا بعد تحرير فلسطين!
الحجة التي تُساق للعودة الدائمة لطرح الأفكار إيّاها، أنه لا بدّ من وجود مشروع سياسيّ للفلسطينيين، وهي حجة سبقت مناقشتها، وبالرغم من أنّ من يبني مقولته على هذه الحجة، من المؤكّد أنه لا يجهل أنّ الفلسطينيين أسرفوا في عرض المبادرات وصياغة المشاريع، واستغرقتهم كثيراً النقاشات والسجالات حول ذلك، مما يعني أنّ عجزهم عن تحقيق إنجاز سياسيّ لا يتعلّق بتأخّرهم عن طرح المشاريع، ولكن النقاش دائماً ما يتجدّد وكأنّ الفلسطينيين لم يفعلوا شيئاً بهذا الخصوص، كأنّ بعض مثقفينا يرتاح إلى هذا المكان السهل مجالاً لاشتغاله، أو يتخيّل أنّ اشتغاله هو على هذا النوع من الأطروحات سيكون مختلفاً عن كلّ من سبقه.
مهما كان الأمر فإنّ استعصاء قضيتنا، نحن الفلسطينيين، حتى الساعة، لم ينجم عن قصورنا النظريّ إزاء هذه العناوين الكبرى، بل على العكس، قد يكون الإسراف في رفع الشعارات الكبرى من أسباب أزماتنا المتتالية (ليس هو السبب الأهمّ بالتأكيد). والأمر ذاته يمكن قوله عن كون المسألة ليست في طمأنة مجتمع المستوطنين ورعاتهم الدوليين حول نوايانا بعد تحرير فلسطين! وإذن فهي دائرة من التلهّي بالأوهام التي لا ثمار لها، سوى العودة لتجريب ما سبق تجريبه.
ينبغي أن نناقش والحالة هذه، مقولة أخرى، وهي أنّ عدم تحقيق الإنجاز السياسي من كفاح الفلسطينيين يفضي إلى يأس فلسطيني، وكفر بقضية المقاومة. هذا الأمر بادي الرأي قد يبدو صحيحاً، لكن المشكلة في دواعي قوله أثناء تلك النقاشات المحايثة للحالة الكفاحية الموجودة في الضفّة اليوم، وكأنّ طرح شعار كبير لها، من قبيل تحرير الضفّة مثلاً، كاف لتحقيق الإنجاز السياسي، وإلا فسوف تفضي إلى فشل ينتهي بذلك اليأس الفلسطيني!
تفيد الحقيقة التاريخية أنّ الفلسطينيين، طرحوا مشاريع كلّية لنضالاتهم وأخرى خاصّة بكلّ محطّة من محطّاتهم الكفاحية، فمن بعد النكبة لم تخل أدبياتهم وخطاباتهم وتعبئتهم الداخلية، وحتى حديثهم مع العالم، من مقولات من قبيل حرب التحرير الشعبية، والدولة الواحدة، والسلطة المقاتلة، والحلّ المرحلي، وحلّ الدولتين. وقد خاضوا انتفاضتهم الأولى، التي توفّرت على ميزات كفاحية غير مسبوقة ولا ملحوقة؛ ومنظمة التحرير تتبنّى فعليّاً حلّ الدولتين وتعلن عن ذلك ضمنيّاً في الدورة التاسعة عشر للمجلس الوطني في الجزائر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988.
الحقيقة التاريخية أنّ الفلسطينيين، طرحوا مشاريع كلّية لنضالاتهم وأخرى خاصّة بكلّ محطّة من محطّاتهم الكفاحية، فمن بعد النكبة لم تخل أدبياتهم وخطاباتهم وتعبئتهم الداخلية، وحتى حديثهم مع العالم، من مقولات من قبيل حرب التحرير الشعبية، والدولة الواحدة، والسلطة المقاتلة، والحلّ المرحلي، وحلّ الدولتين
وقد سادت الخطابات في الانتفاضة الثانية بإمكان تحرير الضفّة الغربية بالمقاومة التي وسمت تلك الانتفاضة، وبالرغم من أنّ الانتفاضة الثانية انتهت إلى انتخابات تشريعية، حملت معها أسباب ما يسمى بالانقسام، فإنّ بعض رموز المقاومة الفلسطينية، من مختلف الاتجاهات السياسية، وبعضهم من الفاعلين في الانتفاضة الثانية، عادوا من داخل معتقلهم لصياغة أطروحة سياسية، تهدف إلى الدمج بين الأطروحات المتعدّدة في الساحة الفلسطينية لأجل التقريب بين الفرقاء، وهو ما سمّي بوثيقة الأسرى، التي صارت وثيقة الوفاق الوطني، التي تحوّلت إلى مرتكز خطابيّ دائم منذ ما يسمى بالانقسام. إذ وبغض النظر عن الرأي في هذه الوثيقة، فإنّ هذا المسار الطويل كاف للقول إنّ المشكلة لم تكن يوماً في أنّ الفلسطينيين لم يتفقوا نظريّاً على رؤية واحدة، أو لم يقدّموا مشاريع كافية، أو لم يربطوا هبّاتهم وانتفاضاتهم بأهداف سياسية.
المشكلة قد تكون على خلاف ذلك تماماً، وهي أنّ الفلسطينيين بالفعل ربطوا محطّاتهم النضالية بأهداف سياسية غير ممكنة في المدى المفترض لها، مما يعني أنّ عدم تحقيق تلك الأهداف المعلنة هو ما قد يفضي إلى اليأس والتعب لا العكس (لا يعني ذلك بالتأكيد أن لا نقول إننا نريد تحرير فلسطين، أو تفكيك الكيان الصهيوني).
ومن ثمّ فما ينبغي أن يكون عليه النقاش والجهد الذهني، عند كلّ محطّة من نضالاتنا، هو في صياغة الأهداف الواقعية القريبة المناسبة لهذه المحطّة وتلك، وهو ما يتطلّب بالدرجة الأولى فهماً دقيقاً للواقع والمعيقات، لأنّ بعض ما يقال، وممن يقول ذلك مهمومون بصدق وإخلاص بالمقاومة الفلسطينية، عن إمكان تحرير الضفّة بالحالة الجارية الآن، منفصل بالكامل عن الواقع، وهو أقرب للحديث الرَغَبِي الذي قد يُضَخّم بعض المعطيات، وقد يتوهّم غيرها. ويمكن أن يضاف إلى ذلك، ما تُطالَب به المقاومة من وسائل عمل لا يمكن التوفّر عليها موضوعيّاً، فليست المشكلة في قصور رؤية لدى فصائل المقاومة فحسب، بل والأهم في الظرف نفسه وحيثياته، ممّا يتطلّب فهمه، ثمّ البحث عن أفضل الطرق للتعامل معه، بما في ذلك الاستثمار الأمثل في المتاح من وسائل ورأس مال بشري، بعيداً عن الإهدار المدمّر أو الاقتصاد المثبّط.
يفتح هذا الكلام على موضوع ضخم، وهو لماذا نقاوم طالما كان مشروع التسوية قد فشل نهائيّاً، بحيث إنه لا سبيل أمامنا إلا المقاومة؟ لكن هذه المقاومة غير قادرة على تحقيق إنجازات كبرى في أفق منظور، بل قد يقال إنّ رفع شعارات كبرى محايثة لمحطّات المقاومة قد يفضي إلى موقف نفسيّ متوجّس ما لم يحقّق الفلسطينيون شعاراتهم تلك. ما يمكن قوله في هذا الموضوع، يحتاج مساحة مستقلّة به مناسبة، لكن طالما أنّ حديثنا عن المحطّات المتتابعة، لا عن المشروع الكلّيّ، فإنّ في هذه المساحة طرح بعض الأفكار بهذا الخصوص الجزئيّ.
تكشف حالة المقاومة الجارية في الضفّة عن فشل نسبيّ وجزئيّ في سياسات الاحتلال، الساعية إلى هندسة المجتمع الفلسطينيّ، وفي الطمس على القضية الفلسطينية بفرض هدوء مخادع يستفيد منه الاحتلال جسراً للتمدّد في الإقليم والعالم، ممّا يعني أنّ أهداف المقاومة المرحلية هي السعي المستمرّ إلى إفشال سياسيات الاحتلال هذه، والدفع نحو تحسين بيئة العمل النضالي، والتغيير في الموازين السياسية والاجتماعية لصالح قضيّة المواجهة
تكشف حالة المقاومة الجارية في الضفّة عن فشل نسبيّ وجزئيّ في سياسات الاحتلال، الساعية إلى هندسة المجتمع الفلسطينيّ، وفي الطمس على القضية الفلسطينية بفرض هدوء مخادع يستفيد منه الاحتلال جسراً للتمدّد في الإقليم والعالم، ممّا يعني أنّ أهداف المقاومة المرحلية هي السعي المستمرّ إلى إفشال سياسيات الاحتلال هذه، والدفع نحو تحسين بيئة العمل النضالي، والتغيير في الموازين السياسية والاجتماعية لصالح قضيّة المواجهة، خاصة وأنّ المعيقات في وجه الفعل النضالي أكثر فداحة من أيّ وقت ماض، بما في ذلك على المستوى الفلسطيني الذاتي. إذ يقف طرف فلسطيني في مقابل قضية المواجهة برمّتها، وهذا ينعكس على المجتمع وإرداته، فأهداف المقاومة الآنية تحصين ذاتيّ، وعرقلة للمشاريع الاستعمارية الصهيونية، ودفع في التغيير السياسي والاجتماعي، ثمّ المساهمة في التغييرات الإقليمية والدولية لصالح فلسطين.
فالأفكار التي ينبغي أن تُطرح؛ كيف يمكن تطوير حالة مقاومة قادرة على إنجاز هذه الأهداف المحدودة مرحليّاً؟ فإن لم نكن قادرين على إنجازها، فهل سوف ننجز تحريراً للضفّة؟