- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
سعيد الشهابي يكتب: الحوار والإكراه وعدالة المنتصر
سعيد الشهابي يكتب: الحوار والإكراه وعدالة المنتصر
- 8 مايو 2023, 3:41:48 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الدعوات للحوار جميلة في ظاهرها، ولكن مصاديقها لا تؤكد هذا الجمال كاملا. فمن المؤكد أن الحوار خير من الخلاف، والتفاوض من أجل التهدئة أفضل من تصعيد الصراع، والسعي للتوصل إلى أرضية مشتركة أحسن من محاولة القضاء على الطرف الآخر. ولكن الواقع يكشف سلبيات أخرى للدعوات التي تنطلق باسم الحوار. فالمفترض أن يكون طرفا النزاع على مستوى متشابه من القوة، وأن لدى كل منهما أوراقا متشابهة تدعم موقفه. فكثيرا ما أدت دعوات الحوار للتصعيد الذي يحدث المزيد من الدمار والخسائر. وحين تنطلق الدعوة من الطرف الذي يعتقد نفسه مسيطرا على الوضع فإنها دعوة لما يشبه الاستسلام. أليس هذا ما حدث في «خيمة صفوان» في شهر مارس 1991 عندما اجتمع قائد قوات التحالف الأنكلو ـ أمريكي الجنرال نورمان شوارتسكوف مع وزير الدفاع العراقي سلطان هاشم؟ يومها كانت القوات الأمريكية قد استخدمت من القنابل والصواريخ والحمم ما يفوق التصور، متجاوزة بذلك ما يمكن اعتباره مسلكا حربيا مقبولا. ويكفي إلقاء نظرة على منطقة «المطلاع» في شمال الكويت ليكتشف مدى ما ارتكبته القوات الأمريكية من جرائم حرب عندما استمرت في قتل الجنود العراقيين وهم في حالة انسحاب واضحة في اتجاه بلدهم. حدث ذلك برغم اتفاق بين الأطراف حققه المبعوث الروسي، يفغيني بريماكوف، بالسماح للقوات العراقية بالعودة إلى أراضيها بدون استهداف. فقد حصدت طائرات «أباتشي» الأمريكية أرواح عشرات الآلاف من الجنود العراقيين المنسحبين. عندها لا يمكن أن يوصف ما حدث في خيمة صفوان بالحوار، بل كان لقاء من أجل إملاء شروط «المنتصر».
ذلك السلوك الأمريكي المشين يمكن اعتباره نمطا للممارسات الشيطانية الإجرامية التي يقوم بها الطرف الذي يملك السلاح والعتاد ويسعى لفرض إرادته على الطرف الآخر من النزاع. وقد أصبح مصطلح «عدالة المنتصر» مقولة لإزالة الشرعية عن أي اتفاق لا يتساوى فيه الطرفان من حيث القوة المادية والقدرة على الدفاع عن النفس. وفي هذا الإطار كيف يمكن تقييم ما يطرحه بعض الحكام بشأن «الحوار» كما فعلت مصر الأسبوع الماضي؟
فقد أطلقت سلطاتها قبل أيام «حوارا سياسيا وطنيا» تقول إنه يهدف إلى إثارة النقاش حول مستقبل البلاد. ويهدف للخروج بتسويات لإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية. لكنه ليس حوارا مفتوحا أو حرّا أو ملزما. فلا بد من عرض مخرجاته على الجنرال عبد الفتاح السيسي نفسه ليقر ما يشاء منها ويرفض ما يشاء. وقد اتضح للكثيرين أن إطلاق هذا «الحوار» إنما هو محاولة لمواجهة الانتقادات لسجل مصر في مجال حقوق الإنسان. الخطوة ليست محصورة بمصر، فالأنظمة التي تواجه اتهامات بالاستبداد والقمع تطلق مقولات الحوار بين الحين والآخر، مستغلة غياب العناصر الوطنية الفاعلة التي كثيرا ما تكون وراء القضبان.
الأمر الواضح أن الأنظمة السياسية المأزومة تمارس أساليب متشابهة لمواجهة الانتقادات والشجب من الخارج، وتسعى لتحييد الانتقادات بخطوات تبدو في ظاهرها إيجابية ولكنها خاوية من المعنى والمضمون. فبالإضافة للحديث عن الحوار تقوم هذه الأنظمة بخطوات أخرى وإجراءات كثيرا ما تفتقر للمضمون. ومن هذه الخطوات تأسيس منظمات «حقوقية» وطرح عناوين جذابة مثل «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان». هذا ما فعلته مصر وحذت البحرين حذوها. وطرحت مصر كذلك ما أسمته «لجنة العفو الرئاسية» التي تعكف على التعامل مع الطلبات للإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين. أما البحرين فقد استعانت بالخبراء البريطانيين لطرح خطوات تهدف لتخفيف الشجب الدولي الذي وضعها على قائمة أسوأ الأنظمة المنتهكة لحقوق البشر، ولكنها لا تلامس جوهرالأزمة السياسية التي تتمحور حول إصلاح النظام السياسي.
من المؤكد أن الحوار خير من الخلاف، والتفاوض من أجل التهدئة أفضل من تصعيد الصراع، والسعي للتوصل إلى أرضية مشتركة أحسن من محاولة القضاء على الطرف الآخر
ومن هذه «المبادرات» ما طرح قبل عامين بعنوان «العقوبات البديلة» وما يتم الترويج له هذه الأيام بعنوان «السجون المفتوحة». وهناك شبه اتفاق بين خبراء حقوق الإنسان بأن هذه الخطوات لا تعدو كونها محاولات لتجاوز الانتقادات والتخفيف من الشجب الدولي من قبل الهيئات الدولية المعنية بهذه الحقوق، وليست مبادرات صادقة لحلحلة الأوضاع السياسية.
فالحاكم الذي يريد أن يتعايش مع مواطنيه يسعى لإظهار حبِّه لهم وحرصه على مصالحهم ويتحاشى عن هفواتهم ويستفيد من المناسبات الدينية والوطنية لإصدار قرارات تخفف من معاناتهم. وحين تكون سجونه مكتظة بمعتقلي الرأي لا يتردد في الإفراج عنهم بدون قيد أو شرط. أما نقل المعتقل السياسي من السجن الضيق إلى منزله مع إبقائه مقيدا بـ «تعهدات» تسلب حقه السياسي أو السماح له بزيارة عائلته في النهار ثم العودة الى طوامير التعذيب ليلا فهو لعب على الذقون واستسخاف لعقول البشر وحقوقهم وكراماتهم.
في مثل هذه الظروف لا تعتبر مقولات «الحوار» التي تصدر عن الحاكم أو بطانته جادة، بل كثيرا ما يُعبّر عنها بـ «حوار الطرشان». فبرغم تصنيفها ضمن مقولات الحوار إلا أنها كثيرا ما تكون غير ذلك. إنه «حوار» يشارك فيه طرف واحد فحسب. يقول السير أنثوني بارسونز، الذي كان سفير بريطانيا لدى إيران في السبعينيات: قلت لرئيس وزراء إيران، أسد الله علم، ذات يوم: لماذا لا يبدأ جلالته (الشاه) حوارا مع المعارضة؟ فقال: إن جلالته يفعل ذلك، ويقوم حواره على أساس: أنا أتكلم وأنت تسمع. بل أن بعض الأنظمة يسعى للتشويش على مقولة الحوار ويحاول إفراغها من محتواها. فبدلا من أن يجلس مسؤولوها الكبار مع ممثلي الشعب سواء في برلمانات منتخبة أو لجان حوار منظمة، يتم توجيه النقاش الى قضايا هامشية ليست في صلب الأزمات التي تعيشها البلاد أو التي تكون عادة في صلب عمل المعارضة ومطالبها. ففي العام 2012 مثلا، تكثف الضغط على حكومة البحرين لإجراء حوار مع المعارضة. وبعد تصريحات وحملات إعلامية مكثفة، تمخض هذا الحوار عن صيغة تشتمل على قدر من «التذاكي» غير الموفق. فبدلا من الجلوس على طاولة مستديرة يحضرها ممثلون عن الطرفين، وجد ممثلو الجمعيات السياسية أنفسهم يتحاورون مع عناصر أخرى من أبناء الشعب متحالفة مع الحكومة، ودار النقاش حول العلاقات بين أبناء المذاهب، وكأن المشكلة كانت صراعا بين طائفتين. وسرعان ما انتهت جلسات الحوار إلى فشل ذريع. السبب أن الطرف الذي يمثل جوهر المشكلة لم يحضر، بل أناب عنه عناصر لا تملك حلا او ربطا.
وكثيرا ما طرح الحوار كمخرج من الأزمات السياسية والعسكرية.
الحوار مطلوب، ولكن نجاحه لن يتحقق إلا إذا صدقت النوايا أولا، وانطلق بمشاركة الأطراف المعنية ثانيا، وأُخضع لمراقبة داعمي الحوار ثالثا. وفي الشهر الماضي احتفى البريطانيون والأيرلنديون بذكرى «اتفاق الجمعة العظيمة» بين الحكومة البريطانية والجيش الجمهورية الأيرلندي الذي أنهى الصراع المسلح الذي استمر عقودا بعد جولات حوار حقيقية. مع ذلك لا يبدو الطرفان مرتاحين للاتفاق، خصوصا الجانب الأيرلندي الذي يسعى لتوحيد شطري جزيرة أيرلندا. لقد كان هناك توازن رعب بين الطرفين دفعهما للقبول بمبدأ التفاوض والحوار. إنه مثال للصراعات بين البشر التي يكون عامل الرعب عنصرا ضروريا لتحقيق الأمن.
ومن مشاكل الدعوات للحوار خصوصا عندما يهدف لوقف الصراعات العسكرية، أنه كثيرا ما يدفع الفرقاء للتصعيد العسكري من أجل تقوية الموقف التفاوضي، الأمر الذي يؤدي الى المزيد من القتل والدمار. والهدف من ذلك تقوية المواقف لتحقيق مكاسب أكبر. وعندها يكون الحوار غير ذي شأن. فالطرف الأقوى عسكريا لا يقبل بالتنازل، بل يقول ممثلوه للطرف الآخر: لن نحقق لك بالحوار ما عجزت عن تحقيقه بالسلاح.
مشكلة العالم اليوم غياب قيم الحق ومفاهيمه واستبعادها من الطاولات التي تحتضن التفاوض أو الحوار. وفي عالم يحصر مصالحه بالجوانب المادية ولا يرى للإيمان أو الأخلاق أو القيم دورا في العلاقات الإنسانية، يصعب تحقيق ثقافة حوار مشروع يُتوخى منه إعطاء كل ذي حق حقه.