- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
سياسات القوة: كيف أثرت حرب أوكرانيا على منظور التهديدات الأوروبية؟
سياسات القوة: كيف أثرت حرب أوكرانيا على منظور التهديدات الأوروبية؟
- 22 يوليو 2023, 4:16:28 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية
ركزت أوروبا في السابق، وبعد حربين عالميتين مدمرتين، على السلام الداخلي والأبعاد الاقتصادية، فيما اهتمت الولايات المتحدة بالدفاع الغربي الجماعي، ولكن مع اندلاع الحرب الأوكرانية، فإن ثمة مؤشرات مختلفة على انتهاء تلك المرحلة؛ حيث تحولت الدول الأوروبية إلى لاعب عسكري بارز، مع استمرار الدول الأوروبية في تزويد أوكرانيا بالمزيد من السلاح والدعم اللوجستي، بالتزامُن مع تأكيد تلك الدول زيادة قدراتها ونفقاتها الدفاعية، ومحاولة تحسين قابلية التشغيل البيني لقواتها المسلحة، من خلال التدريبات المشتركة وشراء المعدات بشكل أكثر تناسقاً، فضلاً عن قبول المزيد من الدول في حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
وتُظهر تلك التطورات عُمق التحولات التي تشهدها القارة الأوروبية فيما يتعلق بالتعامل مع التهديدات الجيوسياسية، لا سيما مع تأكيد معظم تلك الدول خطورة تجاهل المخاطر الجيوسياسية التي تُمثلها روسيا، وهي التحولات التي تمثل عكساً للسياسات الأوروبية التقليدية التي حاولت الانعزال شبه الكامل عن الأحداث الجيوسياسية، والتركيز على الأبعاد الاقتصادية بشكل أكبر. كما تؤكد تلك التحولات أهمية القوة الجماعية الأوروبية في الساحة الدولية. وفي هذا الإطار، نشر موقع “فورين بوليسي”، تقريراً بعنوان “تحول الاتحاد الأوروبي نحو الجغرافيا السياسية بعد الحرب الأوكرانية”، في 18 يوليو 2023، ويمكن استعراض أبرز ما جاء فيه على النحو التالي:
تحولات لافتة
تناول التقرير أبرز التحولات التي تشهدها القارة الأوروبية فيما يتعلق بالتعامل مع التطورات الجيوسياسية، وأبعادها المختلفة؛ وذلك على النحو التالي:
1- تجاهُل أوروبا التفاعُل مع التهديدات الجيوسياسية في السابق: أشار التقرير إلى أنه في أكتوبر عام 1962، أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، اجتمع وزراء من الدول الست الأعضاء في المجموعة الاقتصادية الأوروبية (EEC) عدة مرات، لكن بينما كان العالم يتأرجح على شفا حرب نووية، لم يكن هذا ما ناقشه الوزراء خلال تلك الاجتماعات. بدلاً من ذلك، فقد تفاوضوا بشأن لوائح استيراد الخضراوات والفواكه، وتناولوا الميزانية المشتركة. ومع التداعيات الجيوسياسية للحرب الروسية في أوكرانيا، من المهم أن ندرك تماماً إلى أي مدى وصل الاتحاد الأوروبي بالفعل من العزلة شبه الكاملة عن الأحداث الجيوسياسية الواضحة خلال أزمة كوبا.
بالطبع، في عام 1962، خارج غرفة الاجتماعات الرسمية، كان يجب أن يكون الوزراء الستة قد ناقشوا أزمة كوبا، خاصةً أن جميعهم كانوا أعضاء أيضاً في حلف الناتو، الذي كان من المفترض أن يدافع عن أوروبا إذا تصاعدت الأمور؛ فلقد كانوا يعلمون جميعاً، أنه في حالة حدوث مواجهة نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ستكون أوروبا إحدى ساحات القتال. ومع ذلك، لم يُظهِر جدول الأعمال الرسمي للمجلس، أيَّ أثر جيوسياسي أو سياسي للأزمة.
2- اهتمام أوروبي لافت بالأبعاد الجيوسياسية بعد الحرب الأوكرانية: لفت التقرير إلى أنه خلال تلك الأيام العصيبة في الأزمة الكوبية، كان البيت الأبيض هو الذي يتعامل مع الصواريخ النووية السوفييتية، وبالكاد تمت استشارة الأوروبيين. صحيح أن أوروبا لا تزال تعتمد في الغالب على الولايات المتحدة من أجل أمنها؛ حيث طغى تحذير واشنطن، خلال قمة الناتو في فيلنيوس الأسبوع الماضي بشأن انضمام أوكرانيا إلى الناتو، على المناشدات القوية من قادة أوروبا الشرقية، لتحديد موعد انضمام كييف.
ومع ذلك، يرى التقرير أن نظرة واحدة على نتائج اجتماع رؤساء الدول والحكومات الأوروبيين السبعة والعشرين في بروكسل، في نهاية يونيو، تكشف عن مدى التغير الذي طرأ منذ عام 1962. مرة أخرى، تخاطر أوروبا بأن تُصبح ساحة المعركة الرئيسية. بالتأكيد، استغرق الأوروبيون وقتاً طويلاً لإدراك ذلك. ومن ثم، تعمل جميع الدول الأوروبية الآن، على زيادة قدراتها الدفاعية، وتحاول تحسين قابلية التشغيل البيني لقواتها المسلحة، من خلال التدريبات المشتركة وشراء المعدات بشكل أكثر تناسقاً.
3- تأليب الداخل الأوروبي ضد المخاطر الجيوسياسية التي تُمثلها روسيا: ادعى التقرير أنه مع وجود قوة تعتبرها أوروبا “عدوانية” تشن حرباً على أعتاب أوروبا، فإن الاستمرار في نزع الطابع السياسي عن القضايا، يمكن أن يكون خطيراً في الوقت الحاضر، حتى داخلياً. اليوم، يبدو العكس هو المطلوب في بعض الأحيان على المستويين الأوروبي والوطني؛ ليس نزع الطابع السياسي عن القضايا، بل تسييسها إلى حد معين. على سبيل المثال، يُدرك الأوروبيون الآن أنه يجب عليهم حماية صحافتهم الحرة ضد الأخبار المزيفة من حسابات التصيد الروسية، وبنيتهم التحتية ضد التخريب، وسوقهم الداخلية ضد الشركات من الدول المعادية، ومؤسساتهم الديمقراطية ضد ما يُطلق عليه “التدخل الخبيث”.
4- انخراط أوروبي في تقديم المساعدة والدعم اللوجستي لأوكرانيا: أشار التقرير إلى مؤشر آخر على دخول أوروبا التاريخ من جديد، وهي أنها منخرطة بشدة في تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا؛ حيث تشتري بروكسل أسلحة وذخائر، نيابةً عن الدول الأعضاء البالغ عددهم 27 دولة، فضلاً عن أنها تدعم مالياً الدول الأعضاء التي تمرر معداتها إلى أوكرانيا. كذلك تنسق أوروبا أعمال الطرق والمطارات والجسور، لتسهيل نقل البضائع الثقيلة إلى الشرق.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ذلك العمل اللوجستي الخاص بنقل البضائع الثقيلة، أكثر صعوبةً مما يتخيَّله الكثيرون؛ فخلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، كانت هناك علامات على كل جسر في أوروبا الغربية تشير إلى مقدار الوزن الذي يمكن أن يتحمَّله؛ لتسهيل المناورات العسكرية، ولكن بعد سقوط جدار برلين عام 1989، أي عندما تلاشى خطر الحرب، اختفت هذه اللافتات أيضاً. الآن، يواجه المخططون العسكريون في الاتحاد الأوروبي، صعوبةً في السعي إلى جمع هذه المعلومات من جميع الدول الأعضاء.
5- تأكيد التحول أهميةَ القوة الجماعية الأوروبية الناشئة: يُجادل التقرير أن أوروبا كان يتعين عليها الإقدام على ذلك التحول في وقت سابق، لكن القادة الأوروبيين، الذين يتخذون قرارات بشأن هذه الأمور، يتصرَّفون بشكل مُشترك عندما يواجهون مشاكل مُلحة لم يتمكنوا من حلها بأنفسهم. ولعل ذلك يفسر لماذا نادراً ما تتصرف أوروبا بشكل جماعي، ربما باستثناء قضية تغير المناخ. وفقاً لعالمة السياسة الأيرلندية “بريجيد لا آن”، فإنه على الرغم من عملية صنع القرار المعقدة والفوضوية في بعض الأحيان في الاتحاد الأوروبي، فإن لأوروبا قوة جماعية ناشئة؛ حيث يبدو أن الدول الأعضاء تتفهم أن الاتحاد الأوروبي لا يسلُب بعضاً من سيادتها الوطنية، بل يمنحها السيادة في شكل قوة للتصرف في عالم خطير وغير مستقر.
6- إبراز التحول الجديد حيوية تجربة التكامل الأوروبي: بحسب التقرير فإن رمزية التكامل الأوروبي، والتوقعات الكبيرة التي أثارها بعد حربين عالميتين، كانت هائلة. ربما تم تجاهل الأوروبيين إلى حد كبير خلال أزمة كوبا، لكن قوة مشروعهم تكمن في أن شخصاً ما على الأقل حاول التعلم من التاريخ، وتجربة نموذج للحكم الدولي السلمي. ولا تزال أوروبا تُلهم الكثيرين في جميع أنحاء العالم؛ ليس فقط من خلال رغبة 10 دول في الانضمام إلى الاتحاد، وإنما من خلال اتخاذ المنظمات الإقليمية في إفريقيا وآسيا أيضاً، نموذج السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي قدوةً.
وختاماً، لفت التقرير إلى أنه على الرغم من النكسات والتحديات التي تُعتبر إلى حد ما طبيعية في تجارب الحكم المتعدد الجنسيات، تُواصل الدول الأوروبية الاستثمار في الاتحاد الأوروبي، ومواجهة التحدي الحالي، وهو الحفاظ على ما تمكنوا من تحقيقه خلال العقود التي أمضوها لجعله أكثر أماناً، مع البناء المشترك لقدرات جيوسياسية. لكن لا يزال أمام الأوروبيين طريق طويل ليقطعوه. ولعل استحضار أزمة الصواريخ الكوبية وغياب أوروبا عن أي عملية صنع قرار، يُعتبَر أيضاً بمنزلة تذكير بالمدى الذي وصلت إليه القارة بالفعل في الوقت الحالي.