- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
صبحي حديدي يكتب: الحلف الأطلسي ظهر إلى روسيا وعين على آسيا؟
صبحي حديدي يكتب: الحلف الأطلسي ظهر إلى روسيا وعين على آسيا؟
- 14 يوليو 2023, 12:12:24 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لزائر الموقع الرسمي لـ«حلف شمال الأطلسي» الناتو، أن يعثر على وثيقة مؤرخة في 7 تموز (يوليو) الجاري، أي قبل أيام قليلة سبقت انعقاد قمّة العاصمة اللتوانية فلنيوس؛ عنوانها «العلاقات مع الشركاء في المنطقة الهندو ـ باسيفيكية» تبدأ فقرتها الأولى هكذا: «يعزز الناتو الحوار والتعاون مع شركائه في المنطقة الهندو ـ باسيفيكية: أستراليا، اليابان، جمهورية كوريا [الجنوبية]، ونيوزيلندا. ففي البيئة الأمنية المعقدة اليوم، فإنّ العلاقات مع شركاء متشابهين في التفكير على امتداد العالم تزداد أهمية على سبيل معالجة المسائل الأمنية الجامعة والتحديات الكونية. والمنطقة الهندو ـ باسيفيكية هامة للحلف، بالنظر إلى أنّ التطورات في تلك المنطقة يمكن أن تؤثر مباشرة على الأمن الأورو ـ أطلسي».
في فلنيوس سوف يتجسد حضور «الشركاء» الأربعة، كما هو معروف، في تكرار لما شهدته قمة الحلف في مدريد صيف 2022 أيضاً؛ مع فارق قد يكون جوهرياً من جهة نظرية الحلف التأسيسية، عكسه إقرار وثيقة «المفهوم الستراتيجي» للحلف، التي ترسم توجهاته خلال السنوات المقبلة، حيث يشدد النصّ (للمرّة الأولى، كما يصحّ التذكير) على أهمية المنطقة الهندو ـ باسيفيكية، ملاحظاً أنّ تطوراتها يمكن أن تؤثر على الأمن الأورو ـ أطلسي، وينصّ حرفياً على أنّ الناتو سوف «يعزّز الحوار والتعاون مع شركاء جدد أو حاليين» في تلك المنطقة، وذلك «لعلاج التحديات العابرة للإقليم والمصالح المشتركة». قبل ذلك، في نيسان (أبريل) 2022، توافق الحلف مع «الشركاء» على وثيقة بعنوان «أجندة من أجل معالجة التحديات الأمنية» هدفها المعلَن هو «تعميق التعاون في ميادين متعددة، بما في ذلك الدفاع السيبراني، والتكنولوجيا الجديدة، والتهديدات مختلطة الأصل».
الضجيج في فلنيوس تعالى من حول قضايا قيل إنها «عالقة» مثل تمنّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول المصادقة على انضمام السويد إلى الحلف، أو آجال «غرفة الانتظار» التي يتوجب أن يمكث فيها طلب عضوية أوكرانيا قبل إقراره، أو حتى النظر بعين العطف إلى تمنيات دول أخرى في أوروبا الشرقية للالتحاق، فضلاً عن إشكالية العثور على بديل للأمين العام الحالي ينس ستولتنبرغ بعد تمديد رابع لولايته. كذلك كانت نوبات «غنج» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، والتي باتت أقرب إلى علامة مسجّلة في خطف الأضواء، قد أجبرت مستشار الأمن القومي الأمريكي على مناشدته إبداء بعض الامتنان، واضطرار وزير الدفاع البريطاني إلى تذكيره بأنّ الحلف ليس شركة أمازون بصدد تزويد كييف بأصناف السلاح.
خلف الضجيج، على نيران ليست هادئة بالضرورة، كانت تُطبخ واحدة من أخطر انعطافات الحلف، التي قد تتكفّل عملياً بنسف حفنة من ركائزه التأسيسية الكبرى، في طليعتها الاسم ذاته، «منظمة معاهدة شمال الأطلسي»؛ على صعيد المعاني الملموسة للمفردات الأربع، وما يتبقى فيها من قوام المنظمة (وليس عصبة القوّة الكونية الأوحد) أو الاتفاق (بعد إدخال ما هبّ ودبّ خارج الحدود الدنيا للتوافق) أو التحديد الجغرافي (حين سيختلط الأطلسي بالباسيفيكي، والهندي بالأوروبي).
إذا كان الحلف مشروعاً أمريكياً/ أطلسياً في الأساس، والتشكيلات العسكرية الأوروبية المنخرطة فيه معظمها أشبه بقِطَع ديكورية تستكمل الصورة الخارجية؛ فإنه اليوم الحلف السياسي ـ العسكري الأوحد على نطاق العالم، والأضخم من حيث العدد والعدّة ومساحة الانتشار
وعلى المدى الراهن المنظور، ثمة اعتراض صريح أوّل على هذا «الانفلاش» في المعنى والمهامّ والنطاق، من دولة كبرى مؤسسة مثل فرنسا، لم يتردد رئيسها الحالي في التذكير بأنّ ركيزة الحلف أمنية وعسكرية، وأنّ توتير العلاقات مع الصين (الهدف الأوّل والأبرز من خلف الطبخة الهندو ـ باسيفيكية) يمسّ الاقتصاد في المقام الأوّل. أحد مستشاري قصر الإليزيه لم يتورع، خلال قمة فلنيوس تحديداً، عن تذكير رهط من الصحافيين بمركزية المادتين 5 و6 من المعاهدة الأمّ للحلف، لجهة تعريف مفهوم الاعتداء على أيّ من أعضائه وتحديد نطاقه الجغرافي.
ولقد رددت كواليس قمّة فلنيوس أشكال همز ولمز متنوعة، تغمز جميعها من قناة ستولتنبرغ الذي لا يكفّ عن تكرار ما يقوله الرئيس الأمريكي جو بايدن، أو حتى ما يلمّح إليه مسؤولون أمريكيون؛ حول الأخطار الداهمة التي يمكن أن تتعرّض لها دول هندو ـ باسيفيكية، وكيف أنّ تايوان يمكن أن تكون لقمة الصين السائغة التالية، على غرار لقمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا. البعض استذكر حقائق صلبة تخصّ الصين، من طراز أنها البلد الذي يشكّل سكانه 20٪ من البشرية، وأنّ اقتصادها هو اليوم الأضخم عالمياً شاء مَن شاء وأبى من أبى، وأنها ــ حتى الساعة، على الأقلّ ــ لم تعمد إلى غزو بلد آخر أو ضمّه أو إلحاقه. آخرون لم يكترثوا حتى باقتباس هذه الحقائق، بل اكتفوا بالحكم على تصريحات ستولتنبرغ (خاصة مطالبته بعدم تكرار خطأ أوكرانيا في آسيا) بأنها محاكاة ببغائية لما يردده مستشار الأمن القومي الأمريكي!
وإذا كان الحلف مشروعاً أمريكياً/ أطلسياً في الأساس، والتشكيلات العسكرية الأوروبية المنخرطة فيه معظمها أشبه بقِطَع ديكورية تستكمل الصورة الخارجية؛ فإنه اليوم الحلف السياسي ـ العسكري الأوحد على نطاق العالم، والأضخم من حيث العدد والعدّة ومساحة الانتشار، والأكثر دموية من حيث المهامّ (من يوغوسلافيا السابقة إلى أفغانستان إلى ليبيا إلى أوكرانيا). لقد بدأ من 12 دولة مؤسسة، ثمّ توسّع إلى 15 في خمسينيات القرن الماضي، وهو اليوم يعدّ 32 دولة مع التحاق فنلندا وقرب انضمام السويد، وبين أعضائه ثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) وسبع دول أعضاء سابقة في حلف وارسو المنقرض (بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا، بولندا)؛ وأمّا لائحة الطامحين إلى العضوية فلا تبدأ من أوكرانيا، وقد لا تتوقف عند البوسنة والهرسك.
لا يصحّ أن تُغفل، مع ذلك، مضامين عقائدية اقترنت بتأسيس الحلف، وليس من المنتظر أن تنحسر في أيّ زمن وشيك؛ مثل أنّ الأبعاد الحضارية، أو حتى الثقافية، ليست البتة غائبة عن ركائزه السياسية والعسكرية والأمنية والجغرافية، وهذا ما شدّد عليه ذات يوم رجل غير منتظَر في هذا الميدان تحديداً: الكاتب المسرحي، ولكن الرئيس التشيكي أيضاً، فاتسلاف هافيل. ففي قمّة الحلف التي احتضنتها براغ خريف 2002، قال هافيل: «على الحلف ألا يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية من الحضارات، التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة». لم تكن تركيا هي المقصودة بهذا التعريف «المضماري» لأنّ عضويتها ليست مستجدة كما أنّ جيشها هو الثاني الأضخم في الحلف؛ وبالتالي فالأرجح أنّ هافيل ألمح إلى دول ما تزال تعيش فيها جاليات مسلمة. لافت، مع ذلك، أنّ ذلك التحذير توجّه إلى «قمّة التحوّل» التي ناقشت توسيع الحلف شرق أوروبا وجنوبها، وضمّت سبع دول جديدة إلى النادي (إستونيا وبلغاريا وسلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا).
ولا عزاء لخلفاء هافيل في أنّ الحلف، بصدد الطبخة الهندو ـ باسيفيكية، لا يميل إلى طيّ بعض تلك الطهارة «المضمارية» كما طوى الكثير قبلها حتى بلغ شأو الإيحاء بإمكان انضمام روسيا بوتين ذاتها إلى الحلف؛ الأمر الذي لا يُبطل مقداراً غير قليل من المخاوف ذات الصلة بالأمن العالمي، إذا تعززت معادلة الحلف الثنائية: ظهر إلى روسيا، في أوكرانيا أو في مسادين اشتباك أخرى مقبلة؛ وعين على آسيا، في الصين أساساً، وعبر أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا. الأرجح، استطراداً، أنّ معمار الحلف الوجودي لا يتآكل بالمعاني الأكثر تحريضاً على مخاطر مواجهات كونية دامية فقط، بل يرتدّ القهقرى إلى ما قبل1949… سنة التأسيس!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس