عبدالعزيز عاشور يكتب : بلدنا اللي كانت

profile
  • clock 17 يونيو 2021, 1:27:27 ص
  • eye 924
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

توقف فجأة عن مواصلة سيره فى طريق قريته الترابى ونظر تحت قدميه ثم انحنى ليلتقط شيئا من بين التراب ..

إنها كسرة خبز جافة يعلوها التراب وبعض من أثر العفن ..

ينفض التراب عن كسرة الخبز ثم يرفعها الى جبهته تعبيرا عن التوقير الذى يقترب من درجة التقديس ..

ثم يعاود الإنحناء ليضع كسرة الخبز على جانب الطريق بعيدا عن وقع أقدام المارة   ..

هكذا علموه أن نعمة الله فى كل صورها جديرة بالصيانة والحفظ والتوقير وأن من لا يفعل يخشى عليه أن تزول النعمة عنه ..

وهكذا علمونا فى صبانا أن نتعامل مع نعمة الله بالتوقير اللازم فلا شيئ منها يهدر ولا يلقى الا فيما يفيد ..

تسأله لم وضعت كسرة الخبز جانبا ؟

يقول لك فعلت ذلك حفظا لها من دهس الأقدام ..

تقول له وما قيمة كسرة خبز متعفنة لن يستفيد منها احد ؟

يقول لك هناك من خلق الله ما هو فى أشد الحاجة لهذه الكسرة من الخبز التى لا تروق لك !!

من خلق الله ؟؟؟

نعم من خلق الله فلربما تلتقطها قطة جائعة أو كلب أنهكه الجوع أوسرب نمل ينهب الأرض بحثا عن رزق الله …

ياااااه … كل ده ؟؟!!

فى هذا المناخ وتلك البيئة نشأنا على احترام نعمة الله فى كل صورها معتقدين فعلا كما رسخوا فى وجداننا أنه من لا يحترم نعمة الله ويحافظ عليها زالت من وجهه وذهبت لمن يستحقها ..

ومن هنا لم يكن مجتمع القرية يعرف شيئا عن مصطلحات كالنفايات والزبالة ولم تكن النفايات او الزبالة تمثل عبئا على هذه المجتمع بل إنها إن وجدت يراها مجتمع القرية صورا من صور نعم الله التى أنعمها على خلقه ..

لم يكن أحد ليسمح لك بالنهوض عن طبلية الطعام تاركا بعضا من الطعام فى الطبق الذى تأكل منه فعليك أن تأتى على كل ما فى الطبق لأنها نعمة لم تخلق الا لك ..

حتى رسخوا فى وجداننا مقولة أن الطبق يشكر للاعقه

              ( من يلعق الطبق ولا يترك فيه شيئا )

وطورها بعضهم ليقول أن الطبق يستغفر للاعقه ..

المهم ألا تقوم عن طعامك الا وطبقك يلمع نظافة فلا بقايا فيه ، ومن ثم تحرص دوما ألا تضع فى الطبق الا ما تحتاج فعلا لتناوله ..

ولا بقايا للطعام يمكن أن يلقى بها فى سلة الزبالة ..

تلك السلة التى لم نرها فيما بعد الا فى القاهرة والمدن الكبرى ..

فبقايا الطعام ثروة لا بد من استثمارها فيما ينفع العائلة ..

فكسرات الخبز الجافة توضع فى الماء حتى تلين ثم تفتت وتلقى للدواجن والحمام فى حوش البيت ..

وبقايا الخضر والفاكهة وقشر البطيخ والشمام وما شابههما يتم تقطيعها ونثرها فى الحوش لتلتقطها الكتاكيت والفراخ والحمام وكل ما يمر بفضاء البيت من اليمام والعصافير ..

فتتحول البقايا مع الوقت الى بيض ولحم يعود ثانية الى طبلية الطعام ..

ولا يبق من النفايات سوى بعض القش الجاف وبقايا الحطب التى ينثرها الهواء هنا وهناك فيتم كنسها وجمعها واستخدامها كوقود جاف للكانون حيث تسخين الخبز الفلاحى عند كل وجبة ( التقمير ) ، 

او استخدامها مع أعواد الحطب الجاف فى إشعال الفرن للخبز وغيره من أغراض الطهى ..

يتم كنسها بالمقشة !!

ليست تلك المقشة التى تعرفها وتشتريها من محلات أدوات النظافة !!

بل مقشة أو مكنسة البلح التى لا يناسب كنس التراب والقش غيرها ..

مكنسة البلح عبارة عن سباطة البلح بعد تفريط البلح وإزاحته عنها فتبقى بشماريخها طرية نستخدمها فى الكنس ..

أزيدك من الشعر بيتا ،

هل سمعت عن روث المواشى ؟؟

ذلك الروث التى تسقطه المواشى على اختلاف أنواعها فى طرقات القرية فى ذهابها الى الحقول وإيابها منها ..

ما أن يسقط الروث على تراب الشارع الا وتنشق الأرض عن فتاة صغيرة او حتى امرأة مسنة تسرع فى جمع الروث بيديها وتأخده الى بيتها ولا تبق منه شيئا على الأرض فيبقى الطريق نظيفا !!

ما عساها أن تفعل بالروث ؟

تخلطه ببعض التبن والقش وتصنع منه بيديها أقراصا كبيرة مستديرة تضعها على سطح بيتها فى الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس فلا تمر بضعة أيام حتى تجف تماما وتتحول الى وقود جاف عالى الجودة عظيم النار ..

فمنهن من تستخدمه وقودا ل فرن بيتها ومنهن من تبيعه لغيرها مقايضة ببعض الحبوب او البيض او غيره مما يحتاجه بيتها …

وأما ما نسميه بالقمامة فلم يكن لها وجود الا فيما ندر ..

فما يبعثره الريح فى طرقات القرية الترابية من أوراق جافة او قشر أعواد جافة يتم كنسها بمقشة البلح أولا بأول ويعاد استخدامها كما أسلفنا فى الكانون او الفرن ..

ومن ثم لم نعرف فى صبانا سلات الزبالة ولم تكن بلدتنا تحتاج الى كناس البلدية ليكنس شوارعها وطرقاتها 

معقوووووول ؟؟

بلد بلا زبالة ؟؟؟؟

من أين لمجتمع كهذا ان يعانى من الزبالة ؟

وكيف تمثل النفايات فى مجتمع كهذا عبئا يسعون للخلاص منه ؟

وهم يرون النفايات فى كل صورها بعضا من نعم الله التى لا بد من توقيرها واستخدامها فيما يفيد ؟؟

وكيف تؤرقنا الزبالة ونحن نرى حتى فى بقايا الطعام والخبز الجاف وقشر البطيخ ثروة لا بد من إعادة تدويرها لتنتج اللحم والبيض ؟

وكيف تؤرقنا القمامة فى مجتمع يرى فى روث المواشى ثروة وليس مجرد قاذورات نحتاج للتخلص منها. ؟

مجتمع يرى فى روث المواشى نعمة يسارع المرء بالتقاطها كالصيد قبل أن يسبقه اليها غيره ..

حتى مياة الشرب النظيفة التى كنا حديثى عهد بها فى منتصف الخمسينات كنا نحرص على حسن استخدامها وعدم إهدارها فيما لا يفيد فهى نعمة كبرى لم نرها الا حديثا ويتوجب المحافظة عليها وصونها حتى لا نضطر للعودة الى شرب مياه الترعة ..

فأصبحنا الآن رغم بلوغنا من الكبر عتيا لا نترك صنبور ماء مفتوحا على آخره دون مقتضى ولا نستخدم من الماء الا بقدر حاجتنا رغم تغير الظروف والإمكانيات ..

إنه مجتمع القرية المحفورة ملامحه ليس فقط فى الذاكرة وإنما فى النفس والوجدان ..

ليس هذا فحسب بل هو المجتمع الذى ترك بصماته على الفكر والسلوك رغم تباعد الأزمان والأماكن ورغم كل ما حصلناه من خبرات وعلوم ومعارف ..


التعليقات (0)