عبد الحليم قنديل يكتب: «جنين» عاصمة الحلم الفلسطيني

profile
  • clock 8 يوليو 2023, 5:31:49 م
  • eye 384
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عشرون عدوانا إسرائيليا شاملا في الستة شهور الأخيرة وحدها على مخيم «جنين» الصغير، الذي لا تزيد مساحته مع جواره على كيلومتر مربع واحد، ومع العدوان الأخير الأوسع الأشرس، وبهدف اجتثاث أسطورة مقاومة «جنين» وبنيتها التحتية، صمدت عاصمة الفداء الفلسطيني الحاضر، واضطرت قوات النخبة في جيش الاحتلال إلى الانسحاب مؤقتا، بعد يومين من هدم المنازل وتجريف الشوارع وقتل المدنيين المسالمين، والقصف بالطائرات والصواريخ والمدافع، وودعت «جنين» شهداءها في جنازة مهيبة، ولكن من دون أن ينكسر حلم «جنين»، ولا إلهامها العفي، وصناعتها العبقرية لأبطال عظام، يتناسلون جيلا فجيل، منذ أن كانت «جنين» صخرة تكسر عندها هجوم عملية «السور الواقي» لصاحبها شارون، قبل أكثر من عشرين سنة، وقتها، كان فدائيو «كتيبة جنين» الحالية أجنة في بطون أمهاتهم، اللاتي شهدن تدمير جيش الاحتلال لبيوت المخيم الفقير بالكامل، ولكن من دون أن تهزم روح المقاومة السارية وجيناتها، في مخيم يلخص أحزان المأساة الفلسطينية، ويطل من موقعه الجغرافي الفريد على قلب الداخل الفلسطيني المحتل في نكبة 1948، وينتسب بأرضه إلى شمال الضفة الغربية المحتلة في عدوان 1967، ويجسد الهم الفلسطيني بمراحله وكامل أوصافه، ويلد من أصلاب الرجال والشهداء أطفالا موسومين بوشم المقاومة، ما إن يذهب الواحد منهم إلى مصير الشهادة الجليلة، حتى يصير مثالا يحتذى عند رفاقه، ويجعل من «جنين» وجوارها، صداعا لا يهدأ في رأس كيان الاحتلال، يذكره على الدوام بجرائمه وهمجيته ووحشيته، وينذره بخطر المقاومة التي ولدت لتبقى، وبأن «جنين» هي عنوان فلسطين الأسيرة بكاملها، وبأن الآباء الذين قهروا شارون، الذي كانوا يسمونه «ملك إسرائيل»، ستظل قادرة على هزيمة وقهر خلفائه من المجرمين وأرباب السوابق في حكومة بنيامين نتنياهو الراهنة، وما يأتي بعدها. وكما ذهب شارون إلى حتفه بعد غيبوبة دماغه لثماني سنوات متصلة، فلن يكون مصير نتنياهو والوزراء يوآف جالانت وبتسلئيل سموتيريتش وإيتمار بن غفير وغيرهم، لن يكون أفضل من نهاية سيدهم ومعلمهم إرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق.

الحقائق على الأرض تصنعها القوة، ونصرة الحق الفلسطيني لم يعد لها سوى سبيل وحيد، هو المقاومة التي تنهك قوة الاحتلال، وهذا هو طريق «جنين» وأخواتها

نعم، ستظل «جنين» عاصمة للحلم الفلسطيني، الذي يولد من رحم المأساة ودمارها، ولن يكون العدوان العشرون عليها هو الأخير، ربما لأن مساحتها الضيقة تتمدد في الوجدان والقلوب، وتسري بعدوى المقاومة الأسطورية إلى جغرافيا فلسطين بكامل عذابها واتساعها، فرغم تغير ظروف الوضع الفلسطيني على مدى العشرين سنة الأخيرة، وتدهور مؤشراته السياسية العامة، وملاحقة السلطات الضارية لخلايا الفدائيين في القدس والضفة الغربية بالذات، رغم كل القيود والمهانات والتراجعات والانقسامات، بدت «جنين» العنيدة كأنها تمضى في الاتجاه المعاكس، وكأنها قلعة المقاومة الصامدة المتجددة تلقائيا، وبدا مقاوموها في وحدة لا تهزها انقسامات السياسة، وجمعوا فدائيي «حركة حماس» و»حركة الجهاد» و»حركة فتح» في عروة وثقى لا تنفصم، بدت حركة «الجهاد» وجناحها العسكري «سرايا القدس» في وضع المبادر بالسنوات الأخيرة، وكونت النواة في ما يعرف باسم «كتيبة جنين»، التي ضمت إليها عناصر مما كان يعرف باسم «كتائب شهداء الأقصى» الجناح العسكري لحركة «فتح»، ثم دخلت في الصورة عناصر «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، وفي «جنين» لا يختلفون ولا يتمارون، فالقضية مباشرة وظاهرة وساطعة، وعند الكل قناعة واحدة، أن جلاء الاحتلال لا يكون بغير الدماء، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، وأن الإبداع الكفاحي المسلح هو سبيل التحدي، وبدأوا على طريقة «غزة» التي تختلف أوضاعها الميدانية، في جمع السلاح وتطوير صناعة العبوات الناسفة والمتفجرات والقذائف، وإلى أن بلوروا ما كان يبدو مستحيل التصور، وجعلوا تقليد كتائب المدن والجهات ينتشر وتتصاعد وتيرته، بدءا بمدن شمال الضفة في «نابلس» و»طولكرم» وغيرها، ثم في مدن وقرى وسط الضفة الغربية وجنوبها، وإلى أن تكاملت دوائر وبؤر مقاومة محلية في أغلب الجهات، ربما تنتظر خبرة التنظيمات الأقدم والأطول باعا، ربما لإحكام طرق العمل والتنظيم السري وبناء جيش المقاومة الجديد، في منطقة خطرة مكشوفة مراقبة كل لحظة من جيش الاحتلال، ومن أدوات تجسسه واختراقاته البشرية والتكنولوجية، وفي كل الضفة الغربية التي يطلق عليها العدو اسم «يهودا والسامرة» حسب التاريخ التوراتي، ويعتبرها قدس أقداسه، وقلب مشروعه الاحتلالي الاستيطاني الإحلالي من حول القدس، والمقاومة الفلسطينية المسلحة فيها وانطلاقا منها، هي أخطر ما يفزع كيان الاحتلال غريزيا، ويدفعه لمضاعفة عنصريته وعدوانيته وبطشه وحرقه للمدن والقرى، وتنكيله بأصحاب الأرض، عبر قوات جيش الاحتلال، أو من قطعان المستوطنين وعصاباتهم الإرهابية الدموية المسعورة، وبما يزيد في المقابل من اشتعال جمرة المقاومة وتدافع حضور دواعيها الساخنة، دفاعا عن حق الحياة فوق قداسة الأرض، ويحفز سعي الجيل الفدائي الفلسطيني الجديد لتكثيف العمل المقاوم، وفي بيئة شعبية حاضنة بأغلبها لنداء المقاومة المسلحة، وجماعاتها التلقائية أو المنظمة، بعد أن انتهت اتفاقات «أوسلو» وأخواتها إلى بوار نهائي، وبعد أن سقطت كل رهانات التسوية الخادعة، وبعد إغلاق سوق المفاوضات العبثية قبل عشر سنوات، وبعد أن توارت كل الأقنعة المستعارة، وأعلنها نتنياهو أخيرا بوضوح صارم، وقال إن هدف حكومته وجيشه ومستوطنيه لم يعد يخفى، فلا مكان عنده لما يسمى «حل الدولتين»، ولا مناص ـ حسب تصوره ـ من اجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، ومن ضم الضفة الغربية ـ مع القدس ـ بكاملها، وأن مصير «السلطة الفلسطينية» لا يعني عنده شيئا كثيرا ولا قليلا، ولا بأس أن تبقى في حدود إدارة ذاتية محلية، وهكذا هدم نتنياهو كل معابد «أوسلو» ووعودها، وأشهر وفاتها بجرة قلم، وقد لا يكون ذلك جديدا في مضامينه، لكن إعلان «نتنياهو» الوقح، حرق مراكب المساومين جميعا، ونزع ورقة التوت عن عورات الحكومات العربية المطبعة، وكشف نفاقهم الرسمي اللزج، وأحاديثهم الاستغفالية عن التفاوض كطريق لإقامة دول فلسطينية عاصمتها القدس المحتلة، فلم تعد من معاني لهذه الكلمات المحنطة، ولا من مصداقية لخرافة التعويل على الراعي الأمريكي، الذي أعلن هو الآخر ـ بوضوح قاطع ـ تأييده للعدوان الإسرائيلي الأخير على «جنين»، واتفاقه المسبق مع كيان الاحتلال على شن العدوان، وبدعوى اجتثاث «إرهاب جنين»، فيما اكتفت الحكومات وجامعتها (العربية) باستنكارات باهتة للعدوان، وكأنه لم تصلها الرسالة الجهيرة السافرة لكيان الاحتلال، الذي يزدري وساطات حكومات التطبيع، ويعتبر ما يفعله في القدس والضفة وغزة شأنا داخليا خالصا له، وليس لأحد حق التدخل فيه، إلا بالخضوع والتسليم لكيان الاحتلال بما سرق، ومن دون سلام ولا كلام عن «الشرعية الدولية» وقراراتها، التي صدرت وتراكمت بالمئات ومن دون تنفيذ، وتحولت إلى حبر جف فوق الورق، فالحقائق على الأرض تصنعها القوة، ونصرة الحق الفلسطيني لم يعد لها سوى سبيل وحيد، هو المقاومة التي تنهك قوة الاحتلال، والدم الذي يهزم السيف، وهذا هو طريق «جنين» وأخواتها، وكل تخلف عنه يعني العكس بالضبط، فكل تطبيع هو خدمة مباشرة لكيان الاحتلال، وكل تعويل على تفاوض ذهب مع الريح، وقد أعلنت «السلطة الفلسطينية» نفسها، وقف كل اتصال أو «تنسيق أمني» مع جيش وحكومة الاحتلال، وهو ما نأمل أن يكون صحيحا ونهائيا هذه المرة، وليس امتصاصا موقوتا لسخط وغضب شعبي، فلا يكفي وقف التنسيق «الأمني»، حتى لو صدق الوعد واستمر، ولا ترديد أوهام من نوع طلب «حماية دولية» للفلسطينيين، يعرف من ينادون بها أنها مجرد «طق حنك»، فلن يحمي الشعب الفلسطيني سوى طلائعه المقاومة، ولن ينقذ الأمة من عارها سوى وقف تطبيع الحكومات في الحد الأدنى، ولن ينقذ الحلم الفلسطيني سوى التوحد على كلمة «جنين» واختيارها، وما من قيمة كبيرة ولا صغيرة لانتخابات فلسطينية، أو غيرها من عناوين، تطرح عادة كشروح لانقسام سياسي فلسطيني، وتقدم كأعذار وخلفيات لدوام الاحتراب السياسي بين حكومة غزة وحكومة رام الله، ومفتاح الاتفاق الفلسطيني على كلمة سواء في ما نظن، هو المقاومة وحدها، وبكل السبل الشعبية والمسلحة، والعودة إلى هدف تحرير فلسطين على مراحل، وبعث كيان جديد جامع لمنظمة التحرير الفلسطينية، يوحد جماعات الفداء الفلسطيني في ساحاتها جميعا، فلا تحرير ولا خلاص من الاحتلال بالكلمات والشعارات المتخشبة، بل بتحدي وإنهاك قوة الاحتلال، وإلى أن تزيد تكلفة بقاء الاحتلال على مزاياه المتصورة عند أهله، وهذا هو طريق كل الأمم والشعوب الحية.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)