- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الإمبراطور بوتين
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الإمبراطور بوتين
- 26 فبراير 2022, 4:19:32 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الإمبراطور بوتين
قضي الأمر، واندلعت حرب الاجتياح الروسي لأوكرانيا، ومن كل الاتجاهات في نفس واحد، وبقصف جوي وصاروخي و”سيبراني” مركز، دمر البنية التحتية العسكرية الأوكرانية في دقائق، وحول آلاف الأطنان من الأسلحة الأمريكية التي زودت بها “كييف” إلى ركام خردة، وأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنه لم يعد بوسع أحد تخطي خطوط روسيا الحمر.
لم يتوقف بوتين عند حدود اعترافه باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك شرق أوكرانيا، وقرر الدخول في حرب استنزاف وتحطيم أوكرانيا، ونزع سلاحها بالكامل، وليس فقط منع كييف من الانضمام لحلف شمال الأطلنطى “الناتو”.
وفى مقاربة سابقة لما جرى ويجري في أوكرانيا، أشرت إلى لوغانسك ودونيتسك باعتبارهما “كعب أخيل”، والمصطلح يعود إلى أساطير الإغريق القديمة، عن حكاية الطفل “أخيل”، الذي فزعت أمه من نبوءة كاهن بمقتله في حروب طروادة، وكان الحل بحسب العادات السيارة وقتها، أن تعمده بمياه نهر سحري، وفعلت الأم، لكنها كانت تمسكه من عقب أو كعب أحد قدميه وقت الاستحمام، فصار “كعب أخيل” هو نقطة ضعف الموعود، الذي كبر وصار فارسا حربيا مغوارا، حسم معارك كثيرة لصالح قومه، لكن سهما مسموما أصابه في كعبه الذي لم يعمد بالماء الواقي، فكان مقتله القدري، وفي مقالي عن الكسب الصيني من صراع أوكرانيا، وقد نشر هنا بتاريخ 12 فبراير الجاري، قلت بالنص، بعد الإشارة إلى وضع لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين، في منطقة دونباس الأوكرانية، إنهما “كعب أخيل” داخل أوكرانيا “الذي لن يتخلى بوتين عن استثماره فيهما في المدى القريب والمتوسط”، وهو ما فعله بوتين، بسهام الاعتراف باستقلال الجمهوريتين المنفصلتين قبل ثماني سنوات، في غمار حوادث عام 2014 العاصفة، التي بدأت بإطاحة رئيس أوكرانيا المنتخب وقتها فيكتور يانوكوفيتش، وهو من منطقة دونيتسك وموال لروسيا، بعدها جرى الهجوم الروسي المباغت، وضم موسكو لشبه جزيرة “القرم” وميناء سيفاستوبول على البحر الأسود، وتكثيف التمرد ضد “كييف” في شرق أوكرانيا، وخوض معارك ضارية، سقط فيها 14 ألف قتيل، ولم تتوقف مؤقتا إلا في فبراير من العام التالي 2015، حين تم عقد “اتفاق مينسك”، الذي شاركت فيه روسيا مع فرنسا وألمانيا، إضافة لحكومة أوكرانيا وقادة الانفصاليين، ونص على وقف إطلاق النار، وإلى أن زادت الاتهامات المتبادلة بخرق الاتفاق في الأسابيع الأخيرة، وحتى قرر بوتين طي صفحته، وأعلن قراره المفاجئ بالاعتراف باستقلال جمهوريتي الدونباس، وعقد معاهدات صداقة وتعاون ودعم عسكري، أعقبها التدخل الروسي رسميا، ربما بهدف ضم المنطقة لروسيا في ما بعد، وقد استعادتها قوات الانفصاليين الروس في نحو ساعة، ولم يتوقف بوتين عندها، فنبرة خطابه المطول الممهد للاعتراف بجمهوريتي الانفصاليين الروس، كانت قاطعة وعنيفة وصريحة، تكاد تصف أوكرانيا بأنها دولة مفتعلة، اصطنعها قادة البلاشفة الروس، من لينين إلى ستالين إلى خروشوف، باقتطاع مناطق من روسيا أساسا، ومن بولندا ورومانيا في معارك الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن بوتين لم يسحب اعترافه رسميا بعد بدولة أوكرانيا، وهو ما سلمت به موسكو من قبل في “مذكرة بودابست” خلال تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي كانت أوكرانيا إحدى جمهورياته، واستقلت كما الجمهوريات الأخرى، إلا أن بوتين تراجع عمليا عن الاعتراف، وسعى لاستعادة كل المناطق والمدن الروسية داخل أوكرانيا، وصولا إلى خاركوف وأوديسا وكييف نفسها، ويتهم النخبة الأوكرانية الحاكمة الفاسدة بسرقة 150 مليار دولار من روسيا، وبإهدار حقوق المتكلمين بالروسية داخل أوكرانيا، وبتحويل البلد إلى قاعدة عدوان وتجسس أمريكية على موسكو، وبحيازة تقنيات نووية موروثة من العهد السوفييتي، قد تمكنها من صناعة أسلحة نووية تكتيكية، ربما تصل إلى موسكو بالصواريخ “فرط الصوتية” خلال أربع دقائق لا غير، وكلها أسباب تجعل تحطيم العداء الأوكراني لروسيا مهمة عاجلة بقناعة بوتين، الذي يواصل العمل ببرود لاعب “الشطرنج” المحترف، ويضرب ضربته وقت لا يتوقع أحد.
روسيا بنت وطورت قوة عسكرية ونووية وصاروخية جبارة، وأصبحت طرفا مؤثرا في إعادة تشكيل العالم، مستعينة بعلاقة “بلا حدود” مع التنين الصيني
وعلى الرغم من أن أقوال بوتين التاريخية لا تبدو دقيقة تماما، فقد كانت هناك سوابق لنشوء وطنية أوكرانية قبل حكم البلاشفة، وقبل قيام الاتحاد السوفييتي، توالت صور تمرد “أوكراني” في عصور متعاقبة، بدءا بعصر امبراطورية “كييف روس” في القرن التاسع الميلادي، وحصل أوكرانيون على بعض استقلال موقوت في هبات تمرد، حتى ضد الامبراطورية الروسية، التي آلت إليها أغلب أراضي أوكرانيا الحالية في القرن التاسع عشر، وكان ذلك من دواعي منح البلاشفة استقلالا اسميا لأوكرانيا في عام 1922، ثم أضيفت لأوكرانيا مناطق روسية في “القرم” و”الدونباس” كما ذكر بوتين، الذي يتهمه الغرب بالرغبة في إعادة بناء الامبراطورية الروسية، وهو ما تنفيه موسكو اليوم، وإن كانت مساجلات الاتهام والنفي، قد لا تفيد كثيرا في فهم عقلية بوتين، الذي تقوده نزعة قومية روسية بالمعنى السلافي والمسيحي الأرثوذكسي معا، لا تخلو من حنين ظاهر إلى أيام المجد السوفييتي، الذي عمل بظله ضابطا في جهاز المخابرات الشهير الرهيب “كي. جي. بي”، وهو أي بوتين، ينعى أخطاء البلاشفة، وتفريطهم في حقوق روسيا وأراضيها من منطلقات أيديولوجية، لكنه يقدر وزن الحقبة السوفييتية من منظور قومي روسي، وقد قال بوتين مرة، إن من لم يحزن لانهيار الاتحاد السوفييتي، هو شخص بلا قلب، وإن من يحلم باستعادة الاتحاد السوفييتي كما كان، هو شخص بلا عقل، وبين اعتبارات القلب والعقل يخط بوتين طريقه، ولا يريد استعادة الاتحاد السوفييتي ككيان سياسي موحد، بقدر ما يريد استعادة المعنى الأمني للاتحاد السوفييتي، والدور المحوري لروسيا في قلب منظومة أمنية “سوفييتية” الحدود، فروسيا وحدها ممتدة على مساحة 17 مليون كيلومتر مربع، وأغلب جمهوريات آسيا الوسطى المستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، صارت شريكة مع “روسيا بوتين” في “منظمة الأمن الجماعي”، التي تضم أرمينيا وطاجكستان وكازاخستان وقيرغزستان، إلى جوار روسيا وبيلاروسيا غربا، بينما أوزبكستان وتركمانستان وأذربيجان، على مقربة من الحلف الروسي الأمني، في حين عاندت جورجيا وأوكرانيا، ورغبتا منذ عام 2008، في الاستجابة للغواية الأمريكية بالانضمام لحلف “الناتو”، وكان رد بوتين عنيفا، وتدخل بالقوة لفصل إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا أواخر 2008، ثم كانت قفزته اللاحقة بضم القرم عام 2014، التي يكملها اليوم بالضم الفعلي لشرق أوكرانيا الروسي الغني بالفحم والمصانع والثروات الزراعية، وإن خرجت من قبضته جمهوريات البلطيق الثلاث الصغيرة لاتفيا ـ أستونيا ـ ليتوانيا، التي انضمت رسميا لحلف “الناتو”، وكانت من جمهوريات الاتحاد السوفييتي، لكن بوتين لا يزال يحتفظ بوجود عسكري وعرقي روسي في مولدوفا، وربما يزيد من إغراء بوتين بتحقيق حلمه الأمني، أن روسيا في عهده الممتد، أعادت بناء وطورت قوة عسكرية ونووية وصاروخية جبارة، جعلتها تدخل طرفا مؤثرا في إعادة تشكيل العالم، مستعينة بعلاقة “بلا حدود” مع التنين الصيني المجاور، الذي يزحف بسرعة خاطفة إلى قمة العالم، اقتصادا وتكنولوجيا وسلاحا، وقد يعوض روسيا عن ضعفها الاقتصادي النسبي، مقابل الاستفادة من تكنولوجيا السلاح والفضاء الروسية، ومن شأن العلاقة مع الصين، أن تخفف عن روسيا بعض آثار العقوبات الاقتصادية، التي تفرضها واشنطن مع الاتحاد الأوروبي، وقد أدت عقوبات 2014، إلى تراجع كبير في قيمة الروبل الروسي قياسا للدولار، وإن دفعت بوتين، إلى إجراءات تصحيح اقتصادي، سمحت بتنشيط الاقتصاد الروسي، الذي يعاني ولا يزال من فرط اعتماده على الموارد الريعية، وعلى تصدير البترول والغاز الطبيعي، وهو ما تبدو الصين مستعدة لاستيعاب الكثير منه، فالصين أكبر مصنع في العالم، وأكبر شريك تجاري، وأكبر مستهلك للطاقة، واتجاه روسيا إلى الشرق الصيني، قد يقيها كثيرا من غوائل الخسائر الناجمة عن عقوبات الغرب الجديدة، من نوع “تعليق” ألمانيا لخط “نورد ستريم ـ 2” لنقل الغاز الروسي، وتقليص أمريكا وأوروبا للتبادل التجاري مع موسكو، ووقف توريد التقنيات الإلكترونية، وصولا إلى حجب البنوك الروسية عن نظام “سويفت” المالي، وكلها ضربات قاسية بغير شك، لا بد من أن بوتين أخذها في حسابه قبل اتخاذ قراراته الأوكرانية الأخيرة، وربما قدر أن العقوبات الغربية لن تدوم لمدى طويل، وأن عليه امتصاص الضربات والخسائر القريبة، وإلى أن يدرك الآخرون استحالة تركيع روسيا، خصوصا أن أمريكا ليست مستعدة للدخول في صدام عسكري مباشر، يردع مخاطرة الإمبراطور بوتين.
*كاتب مصري