- ℃ 11 تركيا
- 23 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: في ذكرى إعدام صدام حسين: آخر رئيس لبلد كان اسمه العراق!
عبد الحليم قنديل يكتب: في ذكرى إعدام صدام حسين: آخر رئيس لبلد كان اسمه العراق!
- 8 أبريل 2023, 2:45:20 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قبل 20 سنة بالضبط، وقعت كارثة سقوط بغداد في 9 أبريل/نيسان 2003، وانتشرت المشاهد «الهوليوودية» المصنوعة لإسقاط تمثال صدام حسين في ساحة «الفردوس»، بعدها اختفى صدام نفسه عن الأنظار، وتوالت الحوادث العاصفة على مدى قارب الأربع سنوات، وإلى أن كان الحدث الجلل فجر يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 2006، الموافق وقتها لأول أيام عيد الأضحى والفداء، فقد قرر المحتلون وأشياعهم وقتها إعدام الزعيم العراقي، الذي أبدى صمودا وثباتا مذهلا تحت حبل المشنقة، وهو ينطق الشهادتين مبتسما مستبشرا، ويهتف بحياة العراق وفلسطين والأمة العربية.
والذى يعرف صدام، وقد رأيته لمرة واحدة عن قرب، ولثوان معدودة في زيارة يتيمة لبغداد عام 1994، وحين تابعت كغيرى مشهد إعدامه بعدها بسنوات، لم استغرب أبدا ثباته الأسطوري، فقد كان الرجل كأنه قُدّ من حجر، تهيبت وقتها من مصافحته، أو لعلني لم أرد المشاركة في زحام يتسابق إلى تحيته، أو حتى إلى لمس ردائه العسكري، فقد كنت مسكونا بقراءات وروايات مفزعة عن قسوته، وعدم تردده حتى في إعدام أقرب رفاقه، إن أحس منهم خيانة أو شك فيهم، لكن متابعتي اللاحقة لمجريات محاكمته مع رفاقه، ربما تكون أضاءت جوانب خافية، فلم يخنه أبدا واحد من رفاقه الذاهبين للإعدام، ولم تخذل أسرته قبلهم شجاعته، فقد اختار ابناه وحفيده الموت بالرصاص في معركة مع الغزاة، ولم يرتكب الدنية أحدهم، ولا آثر النجاة، وحتى ابنته «رغد» التي تعيش خارج العراق إلى اليوم، ظلت شامخة مرفوعة الرأس كأبيها، ولم تنجرف لحظة إلى مشاعر تحرفها عن الوفاء لذكرى الأب، الذي لم يتردد في إعدام زوجها وصهره حسين كامل حين خان وباع.
لا حرية لبشر من دون حرية أوطانهم، ولا تبنى الديمقراطية في فراغ، بل في إطار وطن مستقل وقرار مستقل، تفقد الديمقراطيات بدونه أي معنى نافع
وليست القصة في مثال صدام حسين النادر، ولا في ديكتاتوريته المشهودة، وإن كانت هذه الديكتاتورية من لزوم ما يلزم لتأكيد عراقيته، فالعراق بلد صعب المراس، وتاريخه موسوم بالدم من أول تكوينه الأحدث قبل قرن من الزمان، فلم يمت حاكم فعلي للعراق على فراشه، لا في زمن الحكم الملكي الوافد مع الاحتلال البريطاني، ولا في زمن الحكم الجمهوري بعد ثورة 1958، وقد هرب صدام من العراق بمعونة المخابرات المصرية بعدها، وكان محكوما بالإعدام، ومتهما وقتها بالمشاركة في تدبير خطة لقتل عبد الكريم قاسم أول حاكم جمهوري، وقد انتهت حياته سحلا، ووقعت مذابح دامية بين الشيوعيين والبعثيين والناصريين، وذهب الرئيس عبد السلام عارف، ثم شقيقه الرئيس عبد الرحمن، ضحايا للمقتلة وتوالياتها، إلى أن صار صدام رئيسا فعليا للعراق، ومن وراء ستار أحمد حسن البكر بعد «انقلاب البعث» أواسط 1968، ثم أصبح رئيسا رسميا منفردا من عام 1979 حتى وقع الغزو الأمريكي، وعبر نحو ربع قرن، كان العراق خلالها في حالة حرب مستديمة، مع إيران «الخمينية»، ثم تحت حصار طال إلى 13 سنة بعد غزو الكويت، وفي زمني السلم والحرب، ظل العراق مثالا مزدهرا لتنمية هائلة، ساعدته عليها موارد بترولية ومائية منظورة، أضيفت إليها استقلالية قرار، ذهب إلى اندفاع ورعونة، كانت بعضا من سيرة صدام، الذي لم يسرق العراق، ولا خان علمه، وإن أنهك خصومه الداخليين على نحو دموي، ساق إليه التكوين العراقي المشحون بثارات تاريخية وطائفية قاتلة الطباع، جعلت اجتماع طوائفه وأعراقه أشبه ما يكون بلقاء خناجر مسمومة، حبسها صدام في غمدها طويلا، وحفظ للعراق استقرارا، استمر على مدى يقارب نصف عمر البلد السياسي، ثم بدا أن ذهاب صدام، قد ذهب أو كاد بالعراق الحديث الذي نعرفه، فقد تحطم البلد بالغزو الأمريكي، ثم باستيلاء إيران على مراكز القوة والنفوذ فيه، وحل جهاز الدولة والجيش العراقي الوطني، و»فدرلة» العراق التي أدت لتفكيكه، وتحويل البلد إلى مقتلة بالجملة، وإلى مرعى لفساد طافح، لم يشهد العراق له مثيلا، لا في الزمن الملكي، ولا في العهد الجمهوري، والأهم، أن معنى الوطن أو الوطنية في العراق، ذهب بلا عودة حتى تاريخه، وتوالت أسماء الأشخاص والأحزاب والرؤساء ورؤساء الوزارات بلا معنى جدي ملموس، فقد كان صدام على ما يبدو، آخر رئيس أو حاكم فعلي لبلد كبير كان اسمه العراق، بينما الذين خلفوه، من بعد الحاكم الأمريكي المؤسس بول بريمر، وحتى أحدثهم، مما لا ينطبق عليهم وصف الحكام الفعليين، بل هم أقرب لأشباح كوارث أو بقايا صور، يستنزفون عشرات مليارات الدولارات إلى جيوبهم، بينما يذهب العراقيون بغالبهم إلى دوامات الفقر والخوف والموت والدمار، ودونما أمل قريب في استعادة العراق لوحدته وعزته الغاربة.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن ديكتاتورية ودموية صدام المسلم بها، تبدو كما لو كانت «لعبة أطفال»، قياسا إلى ما جرى بعد الرجل، فقد كان العراق مستقلا وموحدا في زمن صدام، في ما يصعب على أي منصف، أن يرى ظلا لوحدة أو استقلال في صورة العراق اليوم، ثم إن صدام كانت له ممارساته القمعية والدموية غير المنكرة مع معارضيه وخصومه، وذهب آلاف من العراقيين ضحايا في عهده، فيما العراق بعد صدام، دخل طاحونة الدم ومفارم اللحم البشري، التي راح ضحيتها ملايين العراقيين، إما بجرائم القصف والقتل الأمريكي، أو باغتيالات الجماعات الطائفية، أو بمذابح داعش «السنية»، وسواها من الدواعش «الشيعية»، فوق ملايين العراقيين الذين تركوا العراق هربا من المذابح، وكان صدام يحكم العراق بحزب واحد ينسب نفسه للقومية العربية، وبنخبة عسكرية ومدنية مختارة، فيما لم تبق للعراق من بعده نخبة حكم أو إدارة يعتد بها، بل مجرد أحزاب تتشكل وتنحل وتتلون أسماؤها ودعاواها بحسب الظروف، ولا يبقى ثابتا فيها، سوى كونها أوعية جاهزة لتعبئة طائفية أو عرقية أو بدوية بدائية، يندر أن تجد فيها كيانا عراقي المعنى، أو يتبنى دعوة وطنية عراقية، تؤمن بوحدة العراق الترابية والسكانية، وكأنها تراضت في ما بينها، أو بحسب دواعي النهب العام، أن يكون لكل «عراقه» وولايته الخاصة، وكلهم يتحدث عن نصرته لعراق في خياله، وعن حرب على الفساد، بينما الكل يمزق ويسرق، ويدعى وصلا بالنزاهة والطهارة والوطنية أو بالديمقراطية، التي صارت مسخا، يتعذر أن ترى فيه وجودا لأغلبية أو أقلية، وإلى الحد الذي كان فيه مطلب مقتدى الصدر بإقامة حكومة أغلبية وطنية، وكأنه خروج عن النص المقدس المدنس، ذهب بالرجل وتياره إلى غيبة واعتزال، فالأصل عند من بيدهم الأمر، هو أن يحكم الكل معا، وأن يتشاركوا في قسمة خير العراق دون شعبه، وأن يحولوا العراق إلى «شركة مساهمة»، توزع فيها المناصب والغنائم بأسماء الطوائف والأعراق، ويبنى الجيش من ميليشيا، بينما يعترف للميليشيات عمليا بجيوشها، ولا تبقى من مؤسسات وثوابت مرعية، إلا أن يكون كل طرف منسوبا إلى حماته وصناعه، فهذا «أمريكي الهوى»، أو «إيراني الولاء»، أو متسللا من أطراف أخرى، تحاول أخذ قطعة نفوذ أو موطأ قدم، وما من حاجة طبعا، لأن نذكر مقارنات في التنمية والتعليم، فقد كان العراق بلدا شبه خال من الأمية في عهد صدام، وكانت نسبة الأمية الأبجدية لا تجاوز العشرة بالمئة من السكان، وكان اقتصاد العراق وخدماته على عهد صدام قبل الحصار يقارن بإسبانيا، وباعتراف بول بريمر نفسه، بينما العراق اليوم، لا يذكر إلا في جداول الدول الأكثر بؤسا وفسادا باتساع المعمورة.
لا نذكر ما نتذكر من باب البكاء على اللبن المسكوب، فما مضى لا يعود كما كان، لكن ما يبقى من دروس صالحة للعظة كثيرة، فليست العبرة بما يساق من شعارات للتضليل، فطلب الديمقراطية ـ مثلا ـ عزيز ومرغوب، لكن ما ثبت يقينا، أنه لا حرية لبشر من دون حرية أوطانهم، وأن الديمقراطية لا تبنى في فراغ، بل في إطار وطن مستقل وقرار مستقل، تفقد الديمقراطيات بدونه أي معنى نافع، وهو عين ما جرى للعراق، الذي يتمزق ويغيب تحت شعار الديمقراطية والحكم التوافقي، ثم إنه لا يصح أن نغفل على مبعدة العشرين سنة، أن العراق كبلد فقد حريته لأسباب كثيرة، أظهرها تواطؤ كثير من الحكام العرب وخدمتهم وتمويلهم لمجهود أمريكا الحربي في احتلال العراق وإطاحة حكمه ودولته.