- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: لماذا تنتصر روسيا؟
عبد الحليم قنديل يكتب: لماذا تنتصر روسيا؟
- 28 مايو 2022, 4:53:07 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كثيرا ما نسمع عن فشل خطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والدليل الذي يساق لك في العادة، أن حملة بوتين في أوكرانيا قادت إلى العكس مما تمنى، فقد كان يريد إبعاد حلف شمال الأطلنطي «الناتو» عن حدود روسيا، بينما تؤدي مخاوف مصاحبة للحملة إلى مضاعفة حدود «الناتو» المباشرة مع روسيا، بدفع دولتي السويد وفنلندا إلى طلب الانضمام لحلف «الناتو»، وفنلندا لها حدود مباشرة مع روسيا تزيد على 1300 كيلومتر، وكانت محايدة عسكريا، كما يزعم على مدى مئة سنة مضت، بينما كانت السويد على الحياد العسكري لمئتي سنة، وانضمام البلدين لحلف «الناتو» يقلب الموازين لغير صالح روسيا، ويشدد الحصار من حولها، ويستنزف طاقتها على البقاء الآمن كما يفترض.
وعلى الرغم مما يبدو من وجاهة ظاهرة في الأقوال أعلاه، إلا أن قوة إقناعها تبدو صورية تماما، فالسويد وفنلندا عضوان في منظمة «الاتحاد الأوروبي»، وجرى دفعهما أمريكيا كما الآخرين إلى منازلة روسيا في حرب أوكرانيا الجارية، وقدمتا ما استطاعتا من سلاح ومال إلى جماعة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وقد بلغ ما قدمه الأمريكيون والأوروبيون في الحرب علنا إلى ما تزيد قيمته على المئة مليار دولار حتى اليوم، ومن دون أن يؤدي الإنفاق الرهيب إلى ما تمنوه من إضعاف روسيا، وهو ما يعني أن مبدأ الحياد العسكري لفنلندا والسويد كان شعارا بغير تطبيق فعلي.
فيما بدا التحالف الأطلنطي متماسكا في أسابيع الحرب الأولى، إلا أن أعراض التشقق واختلاف المصالح طغت عليه، وبدت روسيا قادرة على تنويع تحالفاتها وشراكاتها
أضف إلى ذلك ما هو معلوم من حقائق التاريخ غير البعيد، التي تثبت أن دعوى حياد فنلندا المجاورة لروسيا، لم تمنع حكوماتها، ولا حجبت أراضيها، عن التحول لميادين حرب، وعلى مراحل متعددة، كان آخرها في ما عرف باسم «الحرب العالمية الثانية»، خصوصا في المعارك الضارية المميتة بين قوات النازية الهتلرية وقوات الجيش الأحمر السوفييتي، وقد انتهت إلى ضم روسيا لعشر مساحة الدولة الفنلندية، إضافة لاستيلاء روسيا النهائي على جيب كالينينغراد على بحر البلطيق الذي تطل عليه فنلندا، وتبلغ مساحة كالينينغراد أكثر من 15 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانه الروس يفوق المليون نسمة، وهو منفصل جغرافيا عن اليابسة الروسية، وفيه مقر قيادة أسطول البلطيق الروسي، وقد بادرت روسيا أخيرا إلى ترك «مجلس دول بحر البلطيق»، ما يعني الإنهاء الفوري لاتفاقات التعاون والسلام السابقة، ربما تمهيدا لاستثمار إقليم كالينينغراد للحد الأقصى، وجعله خنجرا نوويا مغروسا في قلب الغرب الأوروبي الأطلنطي، إضافة لنشر قواعد عسكرية وصاروخية نووية على طول الحدود مع فنلندا، بالتواقت مع نشر 50 صاروخا نوويا عالمي المدى من طراز «سارمات 2» في الخريف المقبل، فضلا عن فرص نشر صواريخ «الليزر» القادرة على إحراق الأقمار الصناعية في دقائق، وإلى غيرها من المفاجآت المخبأة في جيب «الحاوي» الروسي، وبما يضع أمن أوروبا ـ بما فيها فنلندا والسويد ـ تحت خطر تهديدات أمنية وجودية، قد تفوق بمراحل ما تتعرض له روسيا بتوسعات «الناتو». والسر ببساطة، أن التوسع الجغرافي لحلف «الناتو»، يقابله الامتداد الجغرافي الهائل لروسيا وحدها، وهي أكبر بلدان الدنيا مساحة (17 مليون كيلومتر مربع)، وتمتد حدودها البرية والبحرية مع دول نصف الكرة الشمالي كله، ومع أمريكا نفسها عبر مضيق «بيرينغ»، وبقدر ما توفر المساحة الشاسعة لروسيا من موارد ومرونة في احتمال الضغوط، فإنها ترتب مخاطر وجودية في كل اتجاه، تدفع القيادة الروسية لمضاعفة قدراتها العسكرية البرية والبحرية والجوية، ليس فقط في اتجاه الغرب الأوروبي وحلف «الناتو»، ولروسيا وحدها أربعون في المئة من مساحة أوروبا، وقد فقدت مع انهيار الاتحاد السوفييتي «حلف وارسو»، وتعرضت لإذلال تاريخي، صحت بعده مع حكم بوتين إلى قيامة جديدة، وأقامت حلفا بديلا تحت اسم «معاهدة الأمن الجماعي»، يضم خمس دول إلى جوار روسيا، إضافة لعلاقة «بلا حدود» مع الصين الزاحفة إلى عرش العالم اقتصاديا بالذات، وهو ما مكن روسيا من الاستطراد في مواجهة التهديد الغربي الأطلنطي، عبر صيانة تماسكها الداخلي في حروب الشيشان، ثم بحرب «جورجيا» الخاطفة في 2008، وحرب «القرم» و»ميناء سيفاستبول» عام 2014، وصولا إلى ما تسميه روسيا اليوم «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا، التي استطالت أيامها وشهورها، وتحولت إلى حرب عالمية تحت المستوى النووي، تواجه فيها روسيا وحدها تحالفا من خمسين دولة وأكثر، تصورت به أمريكا قائدة حلف «الناتو»، أن بمقدورها هزيمة روسيا، بفرض عقوبات من عشرة آلاف صنف، بهدف استنزاف موسكو وسحق اقتصادها ودفعها للركوع، وربما للتحلل الذاتي تحت ركام الضغوط الاقتصادية والحربية غير المسبوقة كونيا. وقد لا تبدو هزيمة روسيا ممكنة، هذا على الأقل ما يذكرنا به التاريخ، واقترانه باتساع الجغرافيا الروسية، وتنوع بيئاتها وتضاريسها وفصولها، صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه بالطريقة والتفاصيل ذاتها، لكن قانونه يبقى فعالا على الدوام، وقد تعرضت روسيا لمحن حربية واقتصادية مريعة، قد لا يكون المجال متسعا لعد مراحلها، نكتفي فحسب بذكر أخطر غزوتين من الغرب لروسيا، غزوة نابليون الكبرى عام 1812، وغزوة هتلر الأكبر بأربعة ملايين جندي لروسيا في عملية «بارباروسا» عام 1941، وفي الحالين نزفت روسيا بغزارة، وزاد عدد قتلاها في الحرب النازية على 25 مليونا، لكن الهزيمة النهائية كانت من نصيب هتلر كما نابليون، وكان الجيش الروسي أسبق الحلفاء إلى تحطيم أسطورة هتلر واحتلال برلين، ولا أحد عاقل يتوقع للرئيس الأمريكي العجوز جو بايدن مصيرا نوعيا أفضل من نهايات نابليون وهتلر، وقد تطورت وتنوعت أساليب الحروب، لكن احتمالات النصر الروسي تبدو الأرجح، ولأسباب شتى، بينها القوة النووية والصاروخية لروسيا، وهي الأكبر والأخطر بامتياز في دنيانا اليوم، وتمنع مجرد التفكير في غزو روسيا عسكريا، وقد لا يكون وضع روسيا الاقتصادي مكافئا لاتساع جغرافيتها وعظمة مواردها، فالناتج الإجمالي لاقتصاد روسيا اليوم، يساوي بالكاد عشرة في المئة من الناتج الإجمالي الأمريكي المعلن، لكن حصار روسيا ومقاطعتها ماليا وتجاريا، لم يؤد إلى دهس الاقتصاد الروسي كما حلم بايدن، بل كانت المفارقة في حدوث العكس بالضبط، فقد توقع بايدن انهيارا فوريا في العملة الروسية «الروبل»، وكان الدولار الأمريكي الواحد يساوى نحو 90 روبلا، قبل بدء حرب أوكرانيا، وتوقع بايدن أن يصل الدولار الواحد إلى ما يزيد على 200 روبل، وكانت المفاجأة المدوية، أن الروبل تضاعفت قيمته بعد تراجع مؤقت، وأصبح أفضل عملات العالم أداء، بشهادة المؤسسات المالية الأمريكية ذاتها، وتراجع الدولار إلى ما يساوى 55 روبلا لا غير، وجرت المباراة الاقتصادية على الهواء، وبإجراءات ذكية متلاحقة من إدارة بوتين الروسية، التي لجأت لاستثمار المزايا النوعية لا الكمية للاقتصاد الروسي، وفرضت تسعير الغاز الروسي بعملة الروبل، على شركاء بايدن الأوروبيين، الذين عجزوا حتى اليوم عن فرض حظر فوري على البترول والغاز الروسيين، وتكاثرت متاعب التضخم في اقتصادات أوروبا المنقادة وراء إدارة بايدن، وفيما بدا التحالف الأطلنطي متماسكا بقوة في أسابيع الحرب الأولى، فقد زحفت عليه أعراض التشقق واختلاف المصالح، في ما بدت روسيا قادرة على تنويع تحالفاتها وشراكاتها وبدائلها، واستعدادها للذهاب إلى حافة الهاوية في حروب الاقتصاد والسلاح، وإلى حد بدا معه حلم عزل روسيا مستحيل التحقق، فبوسع موسكو الاستناد إلى الجدار الصيني، وبوسع موسكو أن تعيد تكييف اقتصادها، وأن تفيدها العقوبات في نهوض صناعي وتكنولوجي مدني، يقارب امتيازها المشهود في الصناعات العسكرية والنووية، وأن تسهم مع بكين في تخليق نظام مالي عالمي جديد، يفكك تدريجيا هيمنة الدولار، المفروض بلا سند مقنع كعملة احتياط دولية.
وفي الميدان الأوكراني الحربي المباشر، نزفت روسيا عسكريا في البداية، لكنها راحت تستعيد خصالها التاريخية المعتادة، ومن دون احتياج إلى إعلان حالة الطوارئ والتعبئة العسكرية العامة، ومع الحفاظ على حجم القوة المحاربة، جرى تغيير تكتيكاتها في صمت، وراحت تتقدم إلى أهدافها المعلنة بتمهل ونفس هادئ، لكن مع قضم متصل للشرق والجنوب الأوكراني، ليس بالتقدم الغالب في إقليم الدونباس وحده، بل بالسيطرة على كامل خيرسون ومساحات كبيرة من مقاطعات زابوريجيا وخاركيف وميكولايف، وربما التقدم إلى أوديسا لعزل أوكرانيا تماما عن البحر الأسود بعد الاستيلاء التام على بحر آزوف، مع استمرار القصف الصاروخي والجوي المتلاحق، واستنزاف شحنات السلاح الغربية المتدفقة، والاحتفاظ بورقة إنهاء الحرب إلى الوقت الملائم لروسيا، ربما في نهايات الصيف أو مطالع الخريف المقبل.
كاتب مصري