- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عبد الحميد صيام يكتب: قراءة أخرى لما يجري في النيجر
عبد الحميد صيام يكتب: قراءة أخرى لما يجري في النيجر
- 1 سبتمبر 2023, 12:14:46 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الآن تذكر العالم النيجر.. بعد الانقلاب لا قبله، ولو استمرت الأمور كما كانت عليه لم يفطن له أحد، ولبقي البلد على فقره وتخلفه ومؤشرات التنمية الخطيرة، التي تؤكد أن 41.8 في المئة يعيشون في حالة فقر مدقع. أضف إلى ذلك معدل العمر المتوقع ونسبة موت الأطفال دون الخامسة، ونسبة الوفيات من الأمراض المعدية، وغير ذلك الكثير. بعد انقلاب 24 يوليو انشغل العالم بالنيجر، والجميع يتباكى على انتهاك الدستور والإطاحة بالرئيس المنتخب محمد بازوم. البيانات والتحركات والزيارات لنيامي لا تتوقف، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أدان الانقلاب وكذلك فعلت كل الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. أما دول المجموعة الاقتصادية لغربي افريقيا المعروفة باسم إيكواس (ECOWAS) فقد هددت بالتدخل عسكريا إن لم يعد الرئيس محمد بازوم إلى موقعه رئيسا للبلاد، وما زال التهديد قائما إلى هذه اللحظة. أما فرنسا فتحدت المجلس العسكري وأصرت على أن تبقي سفيرها في نيامي لأنها لا تعترف إلا بالرئيس الشرعي محمد بازوم.
لا نجادل في أننا نقف مع الانتخابات الحرة والعادلة والشفافة والسلمية، أينما عقدت وكيفما كانت نتائجها، ونرفض تعطيل الحياة الدستورية من حيث المبدأ، ولكننا نصر على استخدام المعايير نفسها في اتخاذ المواقف من الانقلابات التي تطيح بالحكومات المنتخبة أينما حدثت، وكيفما تمت، سواء كانت عسكرية أم دستورية.
يجب أن يكون الموقف موحدا من جميع الانقلابات على نتائج الانتخابات الحرة، سواء عن طريق العسكر أو بالتحايل على الدستور، فلا يجوز أن يكون الموقف مزاجيا، أو تحكمه اعتبارات المصالح والعلاقات القائمة على الاستغلال والنهب، فقد وقع في العالم منذ نهاية الحرب الباردة 1990-1991 نحو 83 انقلابا غالبيتها الساحقة في القارة الافريقية، لكن التعامل مع هذه الانقلابات لم يكن بالضرورة مبدئيا ولا انتصارا للقانون الدولي. فانقلاب برويز مشرف عام 1999 على حكومة نواز الشريف المنتخبة، قوبل بالترحاب وفرشت السجادة الحمراء لمشرف في واشنطن وخاطب جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب. وانقلاب عبد الفتاح السيسي الدموي على رئيس مدني منتخب، صدرت ضده بيانات ناعمة، لكنه بقي ثابتا وترأس الاتحاد الافريقي عام 2019. والانقلاب الدموي لعسكر ميانمار في 1 فبراير 2021 على الحكومة المنتخبة للرئيس وين مينت ما زال محميا، وهو يرتكب المزيد من المجازر. كما أن الانقلابات الأخيرة في افريقيا في تشاد ومالي وغينيا وبوركينا فاسو ما زالت قائمة، وأعلنت وقوفها مع حكم العسكر في نيامي، دون أن تفعل دول الاتحاد الافريقي أو مجموعة إيكواس شيئا. وأود أن أذكر بآخر الانقلابات الدستورية على الرئيس الباكستاني المنتخب عمران خان، الأكثر شعبية ربما في تاريخ البلاد، والذي كشفت أوراقه أخيرا وتبين أنه من صناعة واشنطن. وقبل أن أفصل في هذه النقطة ونرى كيف تعامل الاتحاد الافريقي بشكل عام، ومجموعة إيكواس بشكل خاص مع الانقلابات، سأقدم بعض الحقائق المهمة التي تساعدنا على فهم ما يجري في النيجر.
الواجب أن يكون الموقف موحدا من جميع الانتخابات الحرة، التي أطيح بالفائزين بها عسكريا، أو بالتحايل على الدستور، أو تحكمه اعتبارات المصالح والعلاقات
النيجر من أفقر دول العالم، عدد السكان نحو 26 مليونا وأكبر من مصر مساحة، وهي دولة مغلقة تحيط بها سبع دول من بينها الجزائر، بحدود تصل إلى ألف كيلومتر ونيجريا بحدود نحو 1700 كيلومتر وتشاد نحو 1175 كيلومترا. نسبة السكان المسلمين فيها تصل إلى 99%. استقلت البلاد عن فرنسا عام 1960 وحكمها العسكر معظم هذه السنين وجرى فيها خمس انقلابات عسكرية، وجميع من حكموها اتهموا بالفساد ولم يقم أي منهم بتطوير البنية التحتية، أو الشروع في برامج تنموية رشيدة، علما أن البلاد غنية بالنفط وسابع دولة في العالم في انتاج اليورانيوم، ولهذا السبب، هناك قاعدة جوية عسكرية فرنسية فيها نحو 1500عسكري وقاعدة أخرى للولايات المتحدة أقيمت في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما فيها نحو 1100 عسكري مهمتها حماية مناجم اليورانيوم من الإرهابيين، كما قيل. النفوذ الفرنسي هو الطاغي، وتأخذ فرنسا حصة الأسد من اليورانيوم لتضيء شوارعها وبيوتها ومعالمها وتبقي شوارع نايمي والمدن النيجرية من دون كهرباء. حكم البلد محمدو إيسوفو عشر سنوات من 2011 إلى 2021 ثم سلم السلطة لأحد أتباعه عبر الانتخابات وهو محمد بازوم، الذي طرد رئيس الأركان ساليفو مودي، وكان على وشك طرد رئيس الحرس الجمهوري عبد الرحمن تياني. حاول أيسوفو التدخل لحل الأزمة لكنه فشل، فقاد الانقلاب تياني ومجموعة الحرس المكونة من 700 شخص، وللمفارقة فقد أنقد تياني الرئيس بازوم يوم تنصيبه رئيسا من انقلاب عسكري كان مخططا له. قرر الأخير أن يستبق الضربة مستغلا عدم رضى المؤسسة العسكرية عن تساهل بازوم في محاربة الجماعات المتطرفة على الحدود المالية التشادية وبوركينا فاسو، إضافة إلى غلاء الأسعار وارتفاع نسبة البطالة، وعدم وصول المساعدات الخارجية إلى أيدي المواطنين، ما شكل تأييدا لحركة العسكر من الجيش والشعب المتضرر والطبقات الأكثر فقرا.
هل تستطيع مجموعة إيكواس التدخل عسكريا؟
أعلن الرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو رئيس مجموعة إيكواس، قطع علاقات المجموعة التجارية وإمدادات الكهرباء مع النيجر، وعلّق رحلات الطيران من وإلى النيجر وجمد الحسابات البنكية وأمهل الانقلابيين أسبوعا للاستسلام، وإلا سيبدأ التدخل العسكري، لكنه عاد وبلع كلامه وترك الأمر لوزراء دفاع المجموعة الذين أعلنوا يوم 10 أغسطس عن تشكيل قوة إقليمية لإعادة الحياة الدستورية للنيجر مع التأكيدعلى أهمية الحل السلمي للأزمة. التدخل العسكري لم يلق تأييدا من الجزائر ولا روسيا ولا الدول الثلاث التي أيدت الانقلاب، مالي وغينيا وبوركينا فاسو، وأعلنت هذه الدول أنها ستدخل المواجهة إلى جانب قائد الانقلاب عبد الرحمن تياني.
لقد سبق للمجموعة بقيادة نيجيريا أن تدخلت عسكريا في تسعينيات القرن الماضي مرتين في سيراليون للإطاحة بفوداي سنكوح، الذي انقلب على الرئيس المنتخب أحمد تيجان كبا، وعلى شارلز تايلور في ليبيريا، الذي أطاح بحكومة صموئيل دو المنتخبة وقام بإعدام الرئيس، لكن الفرق أن كلا التدخلين كانا مدعومين من مجلس الأمن الدولي بقرارات واضحة وإنشاء بعثات دولية، خاصة أن الانقلابيين ارتكبوا من جرائم الحرب ما أودى بهم إلى المحاكم الجنائية، لقد تحول البلدان إلى وجع عميق لدول افريقيا الغربية والاتحاد الافريقي برمته الذي بارك التدخل لما ارتكباه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد تحملت نيجيريا العبء الأكبر من تكاليف تلك التدخلات ماليا وبشريا ولم تعد القيادات اللاحقة تملك الجرأة للتدخل بسبب المزاج العام النيجيري من جهة، ولكثرة مشاكل البلاد، خاصة في وجود جماعة «بوكو حرام» التي ما فتئت تعتدي وتقتل وتخطف وتقتل وتتحدى الحكومة المركزية. ولا غرابة أن لجأت نيجيريا لإرسال وفد من علماء الدين المسلمين للتحاور مع الانقلابيين ثم أرسلت أخيرا الرئيس الأسبق عبد السلام أبو بكر للوساطة، ثم توالت الوساطات دون فائدة. حتى إن وسطاء إيكواس طلبوا مؤخرا إطلاق سراح بازوم كإشارة حسن نيّة، من دون جدوى.
من الأسباب الأخرى التي قد تؤخر أو تعطل التدخل العسكري في النيجر وجود انقسام في الموقف داخل مجموعة إيكواس من جهة، وداخل الاتحاد من جهة أخرى. فالرئيس التشادي محمد دِيبي، الذي أيضا وصل السلطة عبر انقلاب، عرض على إيكواس الوساطة ولم يلق أذنا صاغية، كما أن الجزائر ترفض التدخل العسكري بالمطلق وموقفها له تأثيراته على المجموعة، أضف إلى ذلك التجاذب الحاصل بين دول أعلنت وقوفها مع عسكر نيامي كنوع من التشفي بطرد الوجود الفرنسي، الذي ما فتئ يستغل خيرات القارة دون أن يقدم لها شيئا إلا القواعد العسكرية، وهل صدفة أن تخرج المظاهرات المؤيدة لطرد الوجود الفرنسي في العاصمة النيجرية مثلما قامت المظاهرات في كل من بوركينا فاسو ومالي وغينيا وتشاد وموريتانيا، وهي دول بدأت تعتمد على نفسها وتعاونها مع بعضها بعضا للوقوف في وجه الجماعات المتطرفة والإرهابية، وأبدعت أكثر بكثير من الاعتماد على فرنسا، إن أي تدخل عسكري في النيجر سيظهر وكأنه نوع من الدفاع عن المصالح الأمريكية الفرنسية في القارة الافريقية، التي تمر في مرحلة الأفول. ما تحتاجه النيجر ليس تدخلا عسكريا، بل التوصل إلى تفاهم مع دول الإيكواس والاتحاد الافريقي على حل الأزمة الدستورية بطرق سلمية عن طريق الحوار السياسي لضمان احترام الدستور من جهة، وكنس الوجود الفرنسي القائم على الاستغلال المستدام وإفقار الشعوب وتكوين طبقة صغيرة مستفيدة من التعاون مع قوى الاستعمار القديم، من جهة أخرى. الأزمة ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات، لكن تداعيات التدخل العسكري ستكون كارثية على النيجر ومجموعة إيكواس والقارة الافريقية كلها.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي