- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عريب الرنتاوي يكتب: حين تكون ردة الفعل أسوأ من الفعل ذاته
عريب الرنتاوي يكتب: حين تكون ردة الفعل أسوأ من الفعل ذاته
- 10 نوفمبر 2021, 5:59:43 م
- 570
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
حين تكون ردة الفعل غير متناسبة مع الفعل ذاته، بل وربما أسوأ منه، لا بد من وقفة تأمل أمام الأسباب والدوافع التي تجعل حدوث أمرٍ كهذا ممكناً...يسري ذلك على العلاقات بين الأفراد، كما ينطبق في على العلاقات بين الدول...آخر تجليات هذه الظاهرة، ما حدث للبنان مع السعودية وعدد من دول الخليج، إثر الكشف عن تصريحات سبق لجورج قرداحي، وزير الإعلام اللبناني، أن أدلى بها، قبل أن يتسلم منصبه الوزاري، بل وقبل أن يعلم بأنه سيصبح وزيراً ذات يوم.
ليست المشكلة فيما قاله قرداحي، فثمة كثرة كاثرة من المسؤولين الدوليين والأميين، وثمة وزراء متعاقبون في لبنان من "محور 8 آذار"، أدلوا بتصريحات أكثر حدة وصخباً من قرداحي حين وصف حرب التحالف السعودي على اليمن بـ"العبثية" وطالب بوقفها...أنطونيو غوتيريش وصفها بـ"الحرب الغبية"، وفيما أطلقت السعودية على المرحلة الثانية من حربها على اليمن اسم "إعادة الأمل"، كان المجتمع الدولي يُجمع على وصفها بـ"أسوأ كارثة إنسانية في التاريخ"...أما في لبنان، فإن قادة محور بأكمله، لم يتوقفوا يوماً عن "هجاء" الحرب ووصفها بأقذع الأوصاف، فلماذا تغضب الرياض على قرداحي، و"تأخذ لبنان بجريرته"، في الوقت الذي لم تحرك فيه ساكناً ضد من ذهبوا أبعد من الإعلامي اللبناني الشهير في نقدهم لحربها على اليمن؟
قيل في لبنان في وصف ما حدث، وباللهجة اللبنانية الدارجة: "مش رمانة قلوب مليان"، وهذا صحيح، بمعنى أن للرياض موقف من حكومات لبنان الأخيرة، جراء ما تعتبره هيمنةً لحزب الله وحلفائه، على الحكومة...
الرياض قاطعت جهود سعد الحريري لتشكيل الحكومة، ولم تنفع وساطات العالم بأسره في استرضائها لمنحه ضوءاً أخضر للتأليف، منذ أن احتجزته في الرياض وأرغمته على تقديم استقالته عبر شاشاتها...الشيء ذاته حصل مع حكومة الدكتور حسان ذياب التي وصفت بأنها حكومة حزب الله، وقد كشف عبد الله بوحبيب وزير خارجية لبنان، أن المملكة لم تتصل بحكومة نجيب ميقاتي منذ تشكيلها، برغم محاولات الأخيرة المتكررة فتح كوة في جدار الجفاء السعودي...واضحٌ تماماً أن الرياض تخلت عن سياساتها الوسطية التقليدية في لبنان منذ زمن، وأنها تفضل عليها سياسة "من ليس معنا فهو ضدنا"، فلا يكفي أن تكون محايداً حيال حزب الله، حتى وإن كان حيادك اضطرارياً، يتعين على من أراد أن يكون صديقاً للمملكة أن يشهر سيف العداء للحزب، تماماً مثلما يفعل سمير جعجع على رأس القوات اللبنانية.
لكن مشكلة الرياض أنها تتغافل عن حقيقة أنه لو جاء جعجع رئيساً لقصر بعبدا، وتقلد أقرب أصدقائها من "سنّة لبنان": اللواء أشرف ريفي رئاسة الحكومة، فأنهما سيجدان نفسيهما مرغمين على قبول وزراء الثنائي الشيعي في الحكومة، طالما أن هذا الثنائي، يكاد يحتكر تمثيل الطائفة الشيعية بالكامل...إذ حتى بفرض نجاح التيار المناهض لحزب الله في الانتخابات القادمة، وخسارة الأخير أغلبيته النيابية، فإنه لا مندوحة من تمثيل الشيعة في أية حكومة "دستورية – ميثاقية" جديدة، وبالحصة التي يعطيها لهم نظام "المحاصصة الطائفية"، فهذا هو لبنان، وتلكم هي معايير وقواعد لعبته السياسية الداخلية.
والمملكة على أية حال، لم تقل شيئاً مخالفاً لهذه التكهنات، وقد كشف وزير خارجيتها، فيصل بن فرحان، السبب وراء الإجراءات السعودية الأخيرة بالقول إنها أبعد من مجرد شخص وتصريح، وأنها تعود بالأساس لهيمنة حزب الله على مقاليد السياسة والقرار في البلاد.
ما لم يقله الفرحان، قالته مصادر الحزب وأصدقاؤه: مردُّ الانزعاج السعودي من الحزب، ليس عائداً أساساً إلى دوره المهيمن في لبنان، وإنما لدوره البارز في اليمن، ودعمه الكثيف لجماعة أنصار الحوثي...في اليمن، تخسر السعودية في كل يوم جراء حربها العبثية والمكلفة هناك، أما لبنان، فمن الواضح تماماً أن السعودية لم تعد توليه الأهمية التي كان يحتلها في حساباتها من قبل، بدلالة انسحابها المتدحرج من المشهد اللبناني، ليس اليوم، ولكن منذ عدة سنوات.
في مسألة قرداحي، ثمة بعد "شخصي" أسهم في تصعيد ردة الفعل السعودية حتى ذروتها، وأعني بها أن المملكة نظرت إلى الرجل بوصفه "ربيبها"، حتى وهو يدلي بين الحين والآخر بتصريحات تغرد خارج سرب المملكة وسياساتها، وتحديداً حول سوريا...فالرجل بنى صيتاً ذائعا، والبعض يقول "ثروة كبيرة" جراء ظهوره الاستعراضي الكبير على شاشاتها، ومن غير اللائق في التقاليد العربية، أن تُلقي حجراً في بئرٍ سبق لك أن شربت من مائه، فما بالك حين يكون هذا الحجر مقدوداً من جبال اليمن القاسية والصلبة.
ثم، كيف يمكن لبلد صغير، اعتاد على تلقي المساعدات، صادراته للسعودية ودول الخليج هي شريان حياة أول لمزارعيه وصناعييه، وتحويلات اللبنانيين العاملين في هذه البلدان، تشكل الشريان الثاني لاقتصاده ومعاش أبنائه وبناته، سيما في ظلال جائحته الاقتصادية غير المسبوقة، كيف يمكن لبلد كهذا، أن يخرج من بين أبنائه من يجهر بالخلاف والاختلاف مع المملكة، هذا أمرٌ جلل، لا يمكن غفرانه أو التسامح معه، والأمر هنا لا يتعلق بلبنان وحده، بل بمروحة من الدول الصغيرة المتلقية للمساعدات والتحويلات.
لا يكفي المملكة أن يُسبّح الرسميون في لبنان، ومن في منزلته من دول المنطقة، بحمدها ليل نهار، فعلى الجميع أن ينضبط لهذا المعادلة، وبخلاف ذلك، ستُعاقب الدولة برمتها عن أي تقصير عن القيام بدورها في ملاحقة "ناكري الجميل" هؤلاء، ولطالما سُجّلت قضايا بحق شخصيات في هذه الدول، ودائماً من خارج السلك الرسمي، بدعوى "الإساءة لدولة شقيقة" و"تعكير صفو العلاقات معها".
في تفسير ردة الفعل "فوق الاعتيادية" التي صدرت عن المملكة، قبل أن "تجاملها بعض شقيقاتها الخليجيات"، تذهب التقديرات شتى المذاهب، فمن قائل بأنها ردة فعل استباقية على سقوط مأرب الوشيك في أيدي الحوثيين، أي لمعاقبة إيران والحوثي وحزب الله في لبنان، بعد الفشل في اليمن...إلى من يقول بأن المملكة إذ تفتعل أزمة كبرى من قضية صغرى، كان يمكن حلّها عبر القنوات الدبلوماسية المعتادة، إنما أرادت جذب اهتمام واشنطن لتسليك قنوات الحوار رفيع المستوى بين البلدين، بعد أزمة إحجام بايدن عن الاتصال بولي العهد السعودي، والزوبعة التي أثارها وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن باستثنائه الرياض من جولته الخليجية في أيلول الماضي، حتى أن بايدن نفسه، سيعزو قبل أيام، الارتفاع الأخير في أسعار النفط، إلى رغبة قادة من المنطقة، بإجراء اتصالات معه والتحدث إليه، في إشارة غير مباشرة، إلى سياسة المناكفة التي يمكن أن تكون المملكة قد اعتمدتها، لإرغام بايدن على الاتصال بالأمير محمد بن سلمان.
أياً يكن من أمر، فإن ردة الفعل المبالغ بها من قبل المملكة على تصريحات قرداحي القديمة، لا تنتمي إلى عالم "العقلانية" في السياسة الخارجية، وتعكس نمطاً "فوقياً – استعلائياً" في العلاقات بين دولٍ يفترض أنها صديقة وشقيقة، مستوحى من مقولة "اليد العليا واليد السفلى" في التراث العربي، كما أنها تنم عن رغبة دفينة في الاستقواء على "الطرف الأضعف" أو "الممثل البديل"، حين تتعذر مجابهة الطرف الأقوى، أو "اللاعب الأصيل"...ومن أسفٍ فإن ذلك يتم مع لبنان، البلد الذي بالكاد يقوى على تأمين أساسيات العيش اللائق لأهله من غذاء ودواء وكهرباء وماء، بل ولا يقوى على جمع نفاياته وتصريفها.
والمفارقة غير المفهومة، أن "التنمر" السعودي على لبنان، يأتي بعد أسابيع من تصريحات لولي العهد وصف فيها الحوثي بأنه "يمني في الأخير ولديه نزعة عروبية"، سبقها بتصريحات عن "الجارة الإيرانية" التي يتمنى لها "الازدهار والنمو"، وعشية الجولة الخامسة من الحوار السعودي – الإيراني عبر قناة بغداد وبوساطتها...ونقول غير مفهومة، لأن المملكة لم تفعل ذلك مع لبنان، وهي في ذروة القطع والقطيعة مع إيران، وبعد الضربات التي أصابت "أرامكو" في مقتل، فلماذا الآن، وما هي الرسائل التي تتوخى المملكة بثها ولمن، وهل نحن أمام محاولة لتحويل لبنان إلى "قطر ثانية"، وهل يحتمل لبنان أمراً كهذا؟ وهل فكر صنّاع القرار في الرياض، بأن انهيار هذا البلد وانزلاقه في أتون الفوضى الشاملة، لن يخدم حلفائها فيه، ولن يخدم مصالح حلفائها في الغرب والمنطقة؟...مرة أخرى، أين العقلانية في هذه السياسة؟ وإلى متى ستنضبط دول خليجية وعربية أخرى، لمواقف وسياسات لا تجلب لها إلا المتاعب، لا لشيء إلا لأنها تريد "مجاملة" الرياض، أو على الأقل، تفادي غضبها؟