عريب الرنتاوي يكتب: عن أطروحة حسن اسميك، ما الذي تبقى من “جلد الدب” لنصطرع عليه؟

profile
عريب الرنتاوي مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
  • clock 26 أكتوبر 2021, 4:14:00 م
  • eye 677
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أبدأ بالتماس العذر عن “جهلي” بصاحب أطروحة “العودة لوحدة الضفتين”، فأنا لم أسمع به من قبل، إلى أن نشرت الفورين بوليسي مقالة حملت توقيعه “وحدوا الأردن وفلسطين – مرة أخرى” والتي أثارت كما هو معروف، “لغطاً” كثيراً ولم تثر جدلاً حقيقياً، وأيقظت حساسيات ومخاوف، ظلت طافية فوق السطح، ولم تستقر تحته إلا لفترات وجيزة قبل أن تعاود طفوها من جديد.

حساسية الأطروحة، ومكان إقامة صاحبها، هما ما أكسباها كل هذا الاهتمام … فحكاية أن الرجل “مليونير” ليست ذات صلة … أما المخاوف والهواجس فقد نبتت على جذع آخر: انسداد مسارات “حل الدولتين” واشتداد الحاجة لبلورة خيارات وبدائل، فضلاً عن “السياق الإبراهيمي” للتطبيع العربي الإسرائيلي، والتحسب من “دحلانية جديدة”، بدحلان أو من دونه.

وانتقل مباشرة للقول بإن الأطروحة ليست جديدة ولا جدية على الإطلاق، قبل عشرين عاماً تقريباً، وفي لقاء بمنزل الراحل عاصم غوشة في جبل الحسين، وبحضور جلالة الملك ورئيس حكومته وأركان ديوانه، انبرى نفر من أبناء عائلات الضفة الغربية، ممن تقاسموا تمثيلها زمن وحدة الضفتين، للمطالبة بإعادة الضفة للحكم الهاشمي، وقد ظنّ بعضهم أن تعبيد الطريق لدعواتهم، يستوجب “هجاء” منظمة التحرير والممثل الشرعي الوحيد، وفكرة الكيانية الفلسطينية المستقلة.

يومها، حرص المهندس علي أبو الراغب، وبحضور جلالته، على التأكيد باسم حكومة المملكة الأردنية الهاشمية، بأن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وأن الأردن أردن وفلسطين فلسطين، وأن “حل الدولتين” هو مبتدأ الجملة الأردنية وخبرها … لاذ الجمع بالصمت في حضرة الموقف الرسمي، الممهور بتوقيع الملك وخاتمه، مبتلعين إحساساً بالغصة، على الزمن الذي تغير، ولكل زمان دولة ورجال.

نقول ليست جديدة، فما زال من بيننا من تربطه بتلك الأيام، “نوستالجيا” الجسر والتنقل الحر فوق النهر وأداء صلوات الجمعة في المسجد الأقصى، وتناول العشاء هناك قبل العودة للمبيت في عمان … تلك مشاعر نفهمها ونتفهمها، نحن أبناء “جيل الضفتين”، لكن لا مطرح للنوستالجيا في السياسة وحساباتها الجافة والجارحة في كثيرٍ من الأحيان.

ونضيف أنها ليست جدية، وينقصها “نقطة واحدة فقط”، غفل عنها “ريادي الأعمال” المقيم في دولة شقيقة، ألا وهي: “البرهنة على أن إسرائيل ستبدي الاستعداد لإنهاء احتلالها للضفة والقدس الشرقية وتسليمهما للقيادة الأردنية” … إن فعل ذلك، وأظهر ما يثبت أطروحته، سأجازف بتوجيه تهمة “الخيانة الوطنية والقومية”، لكل من يرفض وحدة ضفتي الأردن، فالأولوية لزوال الاحتلال البغيض والمرير والمديد، وليس لمن سيتولى أمر هذه المناطق من بعده: الأردن أم المنظمة … الأولوية لاستئصال سرطان الاستيطان والعنصرية والإجلاء والإحلال والطرد وتهديم المنازل وتشريع السكان واقتلاع الشجر والحجر والبشر.

سنكتفي بإيراد أربعة وقائع (سريعاً) للتذكير إن نفعت الذكرى… أولها أن الملك الراحل الحسين بن طلال، لم ينتظر طويلاً بعد هزيمة حزيران وضياع الضفة والقدس، لكي يبدأ أولى محاولاته لاستعادتهما، فسعى من فوره، وفي عام الهزيمة ذاته، للقاء ليندون جونسون، عارضاً استعادة تلك الأراضي المحتلة، نظير سلام أردني – إسرائيلي … العرض الأردني فاجأ الإدارة الأمريكية آنذاك (إيجاباً بالطبع) لكن ردة الفعل عليه كانت مختلفة في تل أبيب: ليفي شكول، غولدا مائير وموشيه دايان، ومن خلفهما الشريك المشاكس في حكومة الوحدة التي تشكلت عشية حرب حزيران، مناحيم بيغن، ردوا مرحبين بعرض السلام، أما مصير الأرض، فيتعين أن يخضع للمفاوضات، وقد بتنا نعرف اليوم، ما الذي تعنيه هذه “المفردة” في القاموس الإسرائيلي.

بالطبع، كان حرياً بالملك أن يمر بالقاهرة في طريقه إلى واشنطن، لعرض فكرته على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حتى لا تضيع المبادرة الأردنية الإنقاذية، في دوامة حروب المحاور والتحالفات التي شقت المنطقة في حينه وأدخلتها في “داحس وغبراء” مبكرة جداً … عبد الناصر الذي كانت “غصتَه” بضياع الضفة والقدس تحديداً، لا تقل عن “غصتِه” بفقدان سيناء، سارع من دون تردد، لدعم المحاولة الأردنية، متعهداً بوضع كامل ثقله وراءها، إن أمكن لها أن تصل خواتيمها، فتعود الضفة والقدس، عربيتان كما كانتا.

وبعد حرب أكتوبر 1973، وفي موسم “فك الاشتباك” على الجبهات، سعى الملك الراحل لاستلحاق الضفة الغربية بمسار “الخطوة خطوة” للوزير الأشهر في تاريخ الخارجية الأمريكية: هنري كيسنجر… يومها ظن الملك أنه بوضعه قدم واحدة في الضفة، سيفتح الباب مجدداً لحلم استعادة الضفة وإنهاء الاحتلال … إسرائيل رفضت الفكرة جملة وتفصيلاً، بذريعة أن الأردن لم يدخل حرب “يوم كيبور”، واكتفى بإرسال وحدات من جيشه لتدعيم الجيش السوري على جبهة الجولان…الذريعة الإسرائيلية كانت أوهى من أن تحجب الحلم الإسرائيلي بإدامة السيطرة والسيادة على “يهودا والسامرة وأورشليم القدس”.

ولعل آخر محاولة معروفة، قام بها الملك الراحل لاستعادة الضفة والقدس، كانت في العام 1987، بعد عامين على “اتفاق شباط الأردني الفلسطيني”، وعشية قرار “فك الارتباط” الأردني، و”إعلان الاستقلال” الفلسطيني من الجزائر … يومها بدا له أن شيمون بيريز، محاور يمكن الوصول معه إلى نتيجة، تنتهي إلى ترتيب كونفدرالي أردني – فلسطيني، لكن المحاولة سقطت، وسيكون لإسحق شامير “الفضل” في الإطاحة بها، وهو “من صدق وعده”، وأدخل العرب في نفق تفاوضي لعشرات السنين بعد أن وجد نفسه مرغماً على الذهاب إلى مدريد، بضغطِ من جيمس بيكر وضمانات القروض الأمريكية، وبالطبع من دون أن نُبرئ ساحة “الثعلب” الإسرائيلي الذي طالما برز في ثياب الواعظين.

بعيداً عن الأردن ومحاولاته المستميتة والمتكررة، قبل وبعد الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، فقد حاول الرئيس المصري الراحل أنور السادات، أن ينتزع في كامب ديفيد، تعهداً إسرائيلياً بالانسحاب من الضفة الغربية، ولكن من دون جدوى، ومن يقرأ “الشق الفلسطيني” المنسي من اتفاقات كامب ديفيد (1978)، يجد أنها من “قماشة” أوسلو ذاتها، مع فارق اختلاف التوقيع الممهورة به، من السادات إلى ياسر عرفات.

ثقل مصر وزعامتها للعالم العربي، لم تُزحزح إسرائيل قيد أنملة عن مشروعها الابتلاعي للضفة والقدس، تلكم هي الخلاصة التي ستتأكد بعد مرور قرابة عقود ثلاثة من المفاوضات العبثية، قادها عرفات عن الجانب الفلسطيني ليكملها محمود عباس، والنتيجة الفعلية التي انتهى إليها هذا المسار هي تضاعف عدد المستوطنين في الضفة من 100 ألف مستوطن عند توقيع أوسلو إلى 500 ألف مستوطن اليوم، ما عدا القدس، وفي حين كانت المستوطنات من قبل، تحاذي “الخط الأخضر” وتتجمع في كتل كبرى، باتت اليوم تخترق الضفة الغربية طولاً وعرضاً، وتزحف إلى قمم مرتفعاتها وقيعان أغوارها، ممزقة أوصالها وقاطعة الطريق على وحدتها واتصالها الجغرافي … أما القدس، فتلكم حكاية أخرى، قبل كامب ديفيد الفلسطيني (2000) وبعده، وحتى الشيخ جراح (2021).

لو أن مشكلة إسرائيل تكمن فيمن سيحكم الضفة أو يديرها بعد جلائها عنها، لهانت الحلول وتناسلت، ولوجدنا غالبية فلسطينية ساحقة، تقبل بأي بديل غير الاحتلال الإسرائيلي … لكن المشكلة أن الضفة، وبالذات القدس، تقبع عميقاً في فكر الحركة الصهيونية القومي والديني، ومع تفاقم انزياح المجتمع الإسرائيلي صوب التطرف الديني والقومي، تتعاظم مكانتهما في الاستراتيجيات الإسرائيلية وتتعقد الحلول المقترحة بصددهما، ولعل “حل الدولتين” كان الضحية الأبرز لهذا الجنوح الإسرائيلي المتطرف … كما أن تنامي ثقل “لوبي الاستيطان” في السياسة الإسرائيلية، يحيل ما كان صعباً من قبل إلى ضربٍ من المستحيل اليوم، سيما بعد أن ناهز عدد هؤلاء اليوم ما كان عليه عدد اليهود عند قيام دولة الاحتلال عام 1948.

خيّطوا بغير هذه “المسلّة”

ربما نكون ذهبنا بعيداً في إيراد الشواهد الدالة على بؤس نظرية “وحدوا الأردن وفلسطين” بوصفها طريقاً مختصراً لاستعادة الضفة الغربية من براثن الاحتلال، لكننا لم نفعل ما فعلنا إلا لدرء الأوهام وتبديدها، فما زال من بيننا من يعتقد، بأن مشكلة بقاء الاحتلال وتفشي سرطان الاستيطان، عائدان إلى قرارات الرباط، وتولي الفلسطينيين زمام قرارهم بأنفسهم … المشكلة ليست هنا، أيها السادة، المشكلة تكمن في التداعيات والذيول المستمرة والحاكمة للنكبة والهزيمة، والمشكلة تكمن في اقتناع قطاعات متزايدة من الرأي العام الإسرائيلي، أن بمقدورها الاحتفاظ بنتائج تينك الحربين.

لكن ليس كل من يتقدم بأطروحة كتلك التي جاء بها حسن اسميك، يصدر عن وهم بالضرورة، فالعجز والإحساس بالهزيمة يمكن أن يفسرا طروحات كهذه، والأخطر أن “نظرية المؤامرة” لها ما يبررها في هذا المقام، إذ حتى لو قبلنا بفرضية أن “التاريخ ليس مؤامرة”، إلا أننا نؤمن في المقابل بأن “ثمة مؤامرة في التاريخ”.


وهنا لدينا الحق في “الارتياب المشروع”، ليس بسبب دلالة مكان الأطروحة وزمانها وهوية صاحبها فحسب، بل ولاقتناعنا بأنها ربما تكون “صُممت” عن سبق الترصد والإصرار، لإحداث الوقيعة بين الأردن وفلسطين وفيهما، وبين الأردنيين والفلسطينيين، ولإضعاف منعة الجانبين، في مناخات “صفقة القرن الممتدة” و”مسار إبراهام التطبيعي”، ومساعي تنصيب قيادة بديلة عن قيادة منظمة التحرير واستهداف الأردن بمشروع “الفتنة”.

إن أخطر النزعات الأهلية وأكثرها دموية، تلك التي تكتسب طابعاً “هوياتياً”، ولقد رأينا ما حل بدول شقيقة جراء ذلك … ولقد رأينا كيف اشتعل الغضب في الأردن وفلسطين جراء محاولة “تحريك” هذا الملف من جديد، فالحذر الحذر.

إن الذين يدعوننا لتوحيد الأردن وفلسطين ثانية، إنما يتدثرون بهذا الثوب الجميل، للتغطية على جوهر المشروع الوحيد “الواقعي” و”الممكن”: إسرائيل تريد الانفصال عن الفلسطينيين والاحتفاظ بأرضهم في الوقت ذاته، وهي هنا، تلعب بورقة من “يدير السكان من دون الأرض”، فإن عجزت السلطة عن فعل ذلك، فلا بأس بإدارة أردنية، وإن استنكف الأردن عن الاستجابة، فستذهب إلى تجريب “روابط المدن” بعد أن جربت “روابط القرى العميلة” في مختتم سبيعنيات القرن الفائت.

إن الذي يشهرون شعار الوحدة بين ضفتي النهر المقدس، إنما يريدون تدنيس هذه العلاقة، لأنهم يعرفون سلفاً، ما هي الحدود التي ستسمح بها إسرائيل للدور أو “الخيار الأردني” … لكنهم مع ذلك، لا يترددون عن إطلاق قنابل الدخان، الملون هذه المرة، لإخفاء سعيهم للتماهي مع مخرجات الحل بالشروط والمقاسات الإسرائيلية الخالصة.

إن الذين يدعون لوحدة الأردن وفلسطين، لا يجرؤون على التوضيح: عن أي فلسطين يتحدثون … إنهم يريدوننا أن نصطرع على جلد الدب قبل اصطياده، لكنهم لا يشيرون من قريب أو بعيد، إلى حقيقة أنه لم يتبق من جلد الدب، سوى مُزقٍ وأشلاء مبعثرة، فليخيطوا بغير هذه المسلّة.

التعليقات (0)