- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عصام نعمان يكتب: لبنان المتناقض… من السياحة إلى الساحة؟!
عصام نعمان يكتب: لبنان المتناقض… من السياحة إلى الساحة؟!
- 14 أغسطس 2023, 6:08:24 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يتقلّص مرأى لبنان من صورةٍ زاهية نسبياً إلى صورةٍ قاتمة كلياً، خلال أيامٍ عشرة وقعت أحداث غير عادية نقلت لبنان السياحة، الذي يضجّ بمواطناته ومواطنيه المهاجرين العائدين لتمضية عطلة الصيف في ربوعه الخضراء، إلى لبنان الساحة حيث يتصارع سياسياً وأمنياً أطرافه الطائفيون المتنابذون بدعمٍ منظور أو غير منظور من قوى إقليمية ودولية نافذة. الحقيقة أن لبنان الساحة كان دائماً حاضراً في تاريخه السياسي المعاصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، لكنه يعاود الآن الظهور بأشكالٍ جديدة متطورة وأبعاد إقليمية ودولية.
ما كان هذا الانتقال الدراماتيكي السريع ليحدث لو لم يكن ناتجاً عن اشتباكٍ متصاعد بين قوى إقليمية ودولية في منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى شواطئ بحر قزوين شرقاً، أبرز القوى الدولية الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا؛ أبرزها إقليمياً إيران وتركيا و»إسرائيل».
دول الغرب الأطلسي كانت وما زالت في حال احتضانٍ دائم للكيان الصهيوني، لاسيما الولايات المتحدة، التي تعتبره حليفاً وشريكاً مفيداً وتوظفه في خدمة أغراضها ومصالحها الإقليمية. روسيا أقل تورطاً في شؤون غرب آسيا من دول الغرب الأطلسي، لكنها أضحت بعد الحرب الأوكرانية أكثر تعاوناً مع إيران لحاجتها إلى شراء الكثير من مسيّراتها القتالية. بالمقارنة مع القوى الدولية الأخرى، تبدو الولايات المتحدة الأكثر تورطاً في قضايا غرب آسيا، وذلك لدافعين ضاغطين:
ـ حاجتها إلى دعم حلفائها الإقليميين لحماية مصالحها وأسواقها ودورها في المنطقة.
ـ مصلحتها الحاكمة في دعم وتطوير قدرات حليفتها الأولى «إسرائيل» في وجه أعدائها الإقليميين.
لبنان الساحة كان دائماً حاضراً في تاريخه السياسي المعاصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، لكنه يعاود الآن الظهور بأشكالٍ جديدة متطورة وأبعاد إقليمية ودولية
في هذا الإطار، خصوصاً بعد اضطرارها إلى الخروج مهانة من أفغانستان، باتت أمريكا تعتمد استراتيجيةً في غرب آسيا قوامها إبقاء الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني، خصوصاً لبنان وسوريا، والعراق الأبعد منهما قليلاً، في حال ضعفٍ مستدام بجعل كل منها منشغلة بنفسها، أيّ بتخلفها الاقتصادي المرير وحروبها الأهلية المتواصلة بين مختلف الإثنيات والمذاهب والمكوّنات القَبَلية والطائفية التي تتشكل منها شعوبها. إلى ذلك كله، يبدو أن أمريكا عادت إلى إحياء وتفعيل تنظيم «داعش» الإرهابي لاستخدامه في الضغط على الحاكمين والقوى السياسية المناهضة لها في العراق وسوريا ولبنان، لذا لا غلوّ في القول، إن بلدان المشرق العربي، خصوصاً لبنان وسوريا والعراق، تتعرّض اليوم لهجمةٍ أمريكية شديدة لإبقائها منشغلة بنفسها باضطراباتٍ ومناوشاتٍ لا تنتهي. في هذا السياق، يمكن تفسير ما حدث على كوع (منعطف) الطريق العام الدولي في بلدة الكحالة، صاحبة السجل الطويل العريق في توظيفها من قِبل أطراف اليمين الطائفي الانعزالي ودول الغرب الأطلسي في عمليات عدوانية فاقعة ضد قوى التحرر الوطني والعربي، وفي مقدّمها المقاومتان الفلسطينية واللبنانية. سبقت عملية 9 آب/أغسطس الأخيرة في الكحالة سلسلة عمليات استفزازية في مدخل بيروت الجنوبي (الطيونه) وفي خلدة على الطريق الساحلي الممتد إلى صيدا، وفي بلدة عين إبل الحدودية، تميّزت جميعها بمسارعة الأجهزة الإعلامية للقوى السياسية الموالية للغرب الأطلسي إلى تحميل حزب الله مسؤوليتها، قبل مباشرة التحقيق فيها. أكثر من ذلك: اعلن رئيس حزب الكتائب سامي الجميل أن لبنان «وصل إلى نقطة اللاعودة، نعرف التعاون القائم بين الجيش وحزب الله، ولسنا مستعدين للعيش مع ميليشيات مسلّحة، ندعو المعارضة إلى الانتقال من الأسلوب التقليدي في العمل السياسي إلى موقع آخر وجودي كياني أساسي، نضالنا وجودي وكياني ولم يعد نضالاً سياسياً تقليدياً». إذا كان الجميل لم يدعُ إلى العمل المسلّح الآن ضد حزب المقاومة، فهل تراه يفعل إذا ما لجأت إليه الولايات المتحدة التي تمارس ذلك اليوم مباشرةً ومداورةً في سوريا، وربما تالياً في لبنان؟ أو هل تراه يلتقي مع «إسرائيل» ميدانياً في حال شنّت عدواناً على لبنان والمقاومة؟
احتمالات متعددة جرى تداولها بين الكتّاب والمعلّقين السياسيين من شتّى الاتجاهات. بعضهم توقّع قيام حكومة بنيامين نتنياهو، المحاصرة بتظاهرات جماهيرية حاشدة للمعارضة تتواصل منذ ثلاثين أسبوعاً، بشن حملة لاحتلال الضفة الغربية برمتها بغية استيطانها كلها وضمّها تالياً للكيان الغاصب، ظنّاً منها أن ذلك من شأنه توحيد مختلف فئات الإسرائيليين المتصارعين، وإنهاء تظاهرات المعارضة. بعضهم الآخر توقّع أن تركّز حكومة نتنياهو هجمتها على لبنان في محاولةٍ يائسة للقضاء على حزب المقاومة الذي لا يدعم فصائل المقاومة في فلسطين فحسب، بل بات أيضاً أحد أنشط أطراف محور المقاومة في الإقليم، لقيامه بدورٍ فاعل في سوريا أيضاً لدعم حكومتها في وجه التنظيمات المتعاونة مع الولايات المتحدة، التي تنخرط حاليّاً في عمليات دعم لوجستي وعسكري فاعل للتنظيمات المعادية للحكومة المركزية في دمشق والعاملة على سلخ مناطق واسعة عنها في غرب البلاد (إدلب) وشمالها الشرقي (الحسكة) وشرقها الغني بمكامن النفط والغاز (دير الزور). سواء ركّزت «إسرائيل» هجمتها المتوقعة على الضفة الغربية، أو على لبنان فإنها ستجد نفسها منغمسة في حربٍ ضارية مع المقاومة (حزب الله) التي لن تتوانى عن التصدي لها بقوةٍ وقدرات وازنة، كما فعلت أثناء حرب «إسرائيل» على لبنان عام 2006، وربما باقتدار أعظم، نظراً لامتلاكها حالياً أكثر من مئة ألف صاروخ دقيق (بتقدير القادة العسكريين الصهاينة) وبعدد كبير من المسيّرات القتالية القادرة على إلحاق تدمير شديد بمنشآتها النفطية البحرية، وبناها التحتية من مصانع وقواعد عسكرية ومطارات وموانئ ومرافق اقتصادية وتكنولوجية. إلى ذلك، قد ترتدع «إسرائيل» عن اعتماد هذا الخيار البالغ التكلفة، تفادياً منها لقيام إيران بدعم فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين، التي تتعاون عسكرياً تحت راية وحدة الساحات والجبهات، ثم إن الولايات المتحدة لن تسارع، على الأرجح، إلى نجدة «إسرائيل» في حربها المكلفة هذه بدليل توصلها مؤخراً، حسب صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى اتفاقٍ مع إيران لإطلاق 4 أمريكيين سجناء لديها مقابل إلغاء تجميد نحو 6 مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني محتجزة لدى كوريا الجنوبية. في ضوء هذه الواقعات والتطورات، لا يمكن الجزم بالموقف أو بالقرار الذي يمكن أن يتخذه كلٌّ من الأطراف الإقليمية المشاركة في الصراع، غير أن ثمة ترجيحات يمكن التجرؤ على إعلانها، لعل أبرزها اثنان:
الأول، أن تدفن «إسرائيل» مغامرة هجمتها الفجّة ضد المقاومة في لبنان بعدما شيّعت المقاومة بألمٍ وحزن وانضباط شهيدها في حادثة الكحالة أحمد قصاص، وشيع معارضو المقاومة في الكحالة الرجل الذي افتداهم فادي بجاني، كلاّ منهما إلى مثواه الاخير.
الثاني، أن يطوي أهل القرار في لبنان خلافاتهم حول طبيعة العلاقة بين المقاومة والجيش اللبناني، وذلك باعتماد تسوية متوازنة قوامها التقليد التاريخي المعروف بشعار «لا غالب ولا مغلوب»، فلا تُعاد حمولة الشاحنة المنزلقة بذخيرتها وتجهيزاتها إلى المقاومة، بل تُعتبر هدية منها للجيش اللبناني، ولا يُعاد النظر في حق المقاومة بنقل السلاح والذخيرة سراً وعلانيةً على الطرق العامة، عملاً بالمعادلة الثلاثية النافذة: «تكامل الشعب والجيش والمقاومة».
يبقى سؤال: متى يتراجع لبنان الساحة نهائياً أمام لبنان السياحة، بل أمام لبنان الوفاق الوطني والأمان والسلام الأهلي؟