- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: في معادلات العرب الصفرية
عمرو حمزاوي يكتب: في معادلات العرب الصفرية
- 11 يناير 2022, 9:11:27 ص
- 525
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كشف المشهد العربي الراهن عن مفارقة هامة تتمثل في محدودية التحديات المجتمعية التي تواجهها السلطوية الحاكمة على الرغم من الضعف البين لأداء نخبها الاجتماعي والاقتصادي وتهافت سجل انجازاتها التنموية. فعلى سبيل المثال، وباستثناء منطقة الخليج، ما تزال معدلات الفقر والبطالة والأمية في عموم العالم العربي مرتفعة للغاية بينما يتواصل في بلدان مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان وليبيا وتونس تدني مستويات الخدمة العامة المقدمة في قطاعات حيوية كالتعليم المدرسي والجامعي والصحة. يستمر كذلك إخفاق السلطوية الحاكمة في مكافحة ظواهر خطيرة مستشرية ومعطلة للتنمية الحقيقية كالفساد والمحسوبية واستغلال المنصب العام والغياب شبه الكامل للشفافية والمحاسبة كمبادئ يتعين أن تحكم عمل المؤسسات العامة والخاصة. ولذا، تشغل العديد من البلدان العربية قاع التصنيفات العالمية فيما خص مؤشرات الشفافية والحوكمة.
بعبارة أخرى، نحن هنا أمام سلطوية فاقدة لشرعية الانجاز بمعناها التنموي ومضامينها المرتبطة بما اصطلح على تسميته الحكم الرشيد، سلطوية تهيمن نخبها بقبضة حديدية على الدولة والمجتمع والمواطنين، فلا تسمح في المجال السياسي بمنافسة فعلية وتقيد من حريات المواطنين في التعبير عن الرأي والتنظيم والمشاركة في الشأن العام. على الرغم من ذلك، لا تواجه السلطوية الحاكمة تحديات حقيقية أو واسعة النطاق من قبل مجتمعاتها بل ولا تحتاج في الأغلب الأعم إلى توظيف العنف المفتوح أو القمع الواسع النطاق للسيطرة عليها.
اللافت إذا هو تواكب العجز الاجتماعي والاقتصادي لنخب الحكم العربية وفقدانها لشرعية الانجاز مع استمرارية مريحة وغير مكلفة للسلطوية على نحو يناقض من جهة جل الخبرات العالمية المعاصرة لانهيار السلطوية عندما تتعثر مجتمعيا وينتفض المواطنون طلبا لحقوقهم وبحثا عن التغيير، ويحفز من جهة أخرى الباحث على التساؤل عن ماهية العوامل المسببة للوضع العربي الراهن.
الأصل أيضا في عمليات التحول والبناء الديمقراطي هو تبلور قناعة استراتيجية (بمعنى الاستقرار النسبي على مدار فترة زمنية ليست بالقصيرة) لدى النخب الحاكمة والنخب البديلة وحركات المعارضة بإمكانية الصناعة السلمية للتوافق بينها بصورة تضمن مصالحها الحيوية وتصيغ من القواسم المشتركة ما يسمح بتفعيل مبدأ المسؤولية-المحاسبة المزدوج من خلال نظام قضائي مستقل
هناك، من جهة أولى، دور المؤسسات الأمنية التي تغولت بصورة واضحة خلال الأعوام الماضية وأضحت مخصصاتها المالية تستحوذ على نصيب يتزايد باطراد في الموازنات العامة. لم تعد أدوار الأمنيين قاصرة على تعقب ومراقبة قوى المعارضة والتوظيف الانتقائي للأدوات القمعية إزاء من تراهم نخب الحكم مصدرا لتهديدات آنية أو محتملة قد ترد على سيطرتها، بل تجاوزت ذلك باتجاه تغليب منطق الإدارة الأمنية المباشرة للعديد من الملفات المجتمعية والسياسية الحيوية، بدءا من ملفات كتعيين حدود نشاط منظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية والخطوط الحمراء لممارسة الحريات الإعلامية مرورا بهوية وتفاصيل النظم الانتخابية المعمول بها على المستويين الوطني والمحلي وكيفية تقطيع الدوائر الانتخابية وانتهاء بتعديل القوانين المنظمة لمباشرة لحقوق السياسية والمدنية.
أصبحت المؤسسات الأمنية صاحبة الكلمة الفصل في تحديد توجهات نخب الحكم ووضعها موضع التنفيذ متقدمة في فاعليتها هنا على كل ما عداها من الجهات التنفيذية الأخرى، وزارات كانت أو هيئات متخصصة. كما تضخم تمثيل الأمنيين في بيروقراطية الدولة وأجهزتها خاصة تلك المضطلعة بتسيير شئون الجهات والمحليات بصورة بلورت شبكة شاملة ونافذة للإدارة الأمنية الشاملة للمجتمع يصعب معها على المواطنين التحرك المنظم لمجابهة السلطوية الجاسمة.
يتبع تحليل تغول المؤسسات الأمنية أمر آخر يتمثل في نزوع نخب الحكم العربية نحو شخصنة وتركيز السلطة وأدوات ممارستها حول مجموعة صغيرة العدد ذات مصالح متجانسة وتربطها تحالفات عضوية تحد كثيرا من الإمكانية الفعلية لنشوب صراعات داخل النخب، وتلك الصراعات شكلت في بعض الخبرات العالمية المعاصرة لانهيار أنماط الحكم السلطوي (في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية) إما قاطرة التغيير أو بداية تبلوره.
ما تزال معدلات الفقر والبطالة والأمية في عموم العالم العربي مرتفعة للغاية بينما يتواصل في بلدان مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان وليبيا وتونس تدني مستويات الخدمة العامة
فوراء واجهة تبدو تعددية لبعض نخب الحكم العربية بمكوناتها الأمنية والمدنية وبالأجيال المختلفة الممثلة داخلها من كبار السن ومتوسطي العمر وبحساسيتها المتنامية لثنائية النوع التي صعدت في إطارها بعض الوجوه النسائية إلى المستويات العليا للمسؤولية التنفيذية، ثمة استمرارية لافتة لشخوص الممارسين الحقيقيين للسلطة وتدوير مستدام لهم في جنبات الحياة السياسية وفقا لإستراتيجيات محكمة.
من جهة ثالثة، تتوفر نخب الحكم العربية فاقدة شرعية الانجاز والعاجزة عن تقديم المنتظر منها مجتمعيا، تتوفر على خطابات رسمية لا تعدم القدرة الاقناعية تخيف بها أغلبية المواطنين من طلب التغيير على الرغم من معاناتهم وقسوة ظروفهم المعيشية وتباعد بينهم وبين الالتئام وراء قوى معارضة تسعى لإنهاء السلطوية.
توظف نخب الحكم المؤسسات الدينية والإعلامية، إن المدارة حكوميا دون مواربة أو المسيطر عملا على فعلها وممارساتها اليومية، لإقناع الناس بالمرادفة بين المطالبة بالتغيير وبين تهديد النظام العام وخطر دفع البلاد إلى حالة من الفوضى العارمة، وهو ما يحول دون ترجمة طاقة الرفض لدى المواطنين الناتجة عن سخطهم الحقيقي على أداء النخب إلى عمل شعبي منظم يستعيد حيوية الانتفاضات الديمقراطية في 2011 ويتخطى حدود النشاط الاحتجاجي العفوي والجزئي الذي شهده العالم العربي طوال الأعوام الماضية.
ولا ريب في أن القدرة الاقناعية لخطابات «التخويف من التغيير» الرسمية ليست بمنقطعة الصلة عن فشل العديد من قوى المعارضة التي ترفع شعاري الديمقراطية وحقوق الإنسان في تمثل المضامين الفعلية للشعارين في ممارساتها وعجزها عن صياغة تصور برنامجي للتغيير المرتجى واضح المعالم ومطمئن لمواطنين تفرض عليهم قسوة الظروف المعيشية الحذر المستمر وتعلمهم تجارب الماضي المريرة الخوف على القليل المتهافت الذي يتمتعون به اليوم من تغيير مستقبلي قد يأتي عليه.
من جهة رابعة، ترتبط استمرارية السلطوية في بلاد العرب بالوضعية الهشة والهامشية لقوى وأحزاب المعارضة وعجزها عن الضغط بفاعلية على نخب الحكم بغية إنجاز التحول الديمقراطي. فمعظم القوى الليبرالية واليسارية تفتقد اليوم، وفي ظل الترتيبات السلطوية الضاغطة، القواعد الشعبية الحقيقية وتتكلس بالتالي نخبها وخطاباتها وبرامجها.
أخيرا، هناك رابطة سببية بين استمرارية السلطوية وتهافت فرص التحول الديمقراطي وبين هيمنة ثقافة العنف الاقصائية على المجتمعات العربية والغياب الكامل لقيمة الفرد-الإنسان-المواطن.
فلا إدارة سلمية للاختلاف في مجتمعاتنا، والديمقراطية هي في الجوهر منهج وإجراءات الإدارة السلمية للاختلاف التي تسمح بتعددية الطروحات والفاعلين وبتداول السلطة بينهم في إطار من حكم القانون والمشاركة الشعبية. وفي حين يرتبط تعدد مصادر القمع في بلدان كسوريا وليبيا والعراق بالانهيار الكامل لقدرة الدولة على احتكار الاستخدام الشرعي للعنف، تنفرد السلطوية الحاكمة في جل الحالات العربية الأخرى بأداء المهمة بكفاءة وتعقد وظيفي تتنوع معهما مستويات القمع من قتل إلى سجن واعتقال وتعذيب مرورا بتعقب وتشريد ومنع وانتهاء بتهديد ووعيد، تماما كما تختلف الجهات المنفذة من أجهزة رسمية إلى شبكات غير رسمية.
الأصل أيضا في عمليات التحول والبناء الديمقراطي هو تبلور قناعة استراتيجية (بمعنى الاستقرار النسبي على مدار فترة زمنية ليست بالقصيرة) لدى النخب الحاكمة والنخب البديلة وحركات المعارضة بإمكانية الصناعة السلمية للتوافق بينها بصورة تضمن مصالحها الحيوية وتصيغ من القواسم المشتركة ما يسمح بتفعيل مبدأ المسؤولية-المحاسبة المزدوج من خلال نظام قضائي مستقل وبإشراك الأفراد بوصفهم مواطنين في تحديد معنى الصالح العام من خلال آليات كالانتخابات للهيئات التشريعية والرقابة الشعبية لمؤسسات المجتمع المدني. عربياً وبالمقابل، يدلل استشراء ثقافة العنف الاقصائية على مركزية قراءة الخطر والمعادلات الصفرية عندما تنظر النخب والقوى الحاكمة والبديلة إلى بعضها البعض. مثل هذه الرؤى والممارسات ليس لها سوى أن تقضي على الفكرة الديمقراطية وتزيد من تهافت الحديث عن حتمية التحول باتجاهها.
كاتب من مصر
(القدس العربي)
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "180 تحقيقات"