فؤاد راشد : الياقوتة المكنونة !

profile
  • clock 29 أبريل 2021, 10:20:29 م
  • eye 854
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كنا تلاميذ في مراحل الدراسة الاعدادية , تمضي بنا أيام الصيف كتلا ثقيلة من الملل , يتضافر علي أعصابنا الحر مع جيوش الذباب تطاردنا كما تطارد الجميع أينما حللنا , مع انعدام فعلي لأي وسيلة تسلية لعدم دخول الكهرباء للقرية وقتها .

انفتحت لنا طاقة القدر , باحالة وكيل مكتب البريد للمعاش , وقدوم وكيل أخر, الأستاذ( أبو العزم الأسيوطي ) شاب متفتح ودود , ذاع بيننا صيته الثقافي ووده الذي يسع الجميع.

لايتسغرق منه العمل يوميا غير نصف ساعة علي أكثر تقدير, وبعدها يتفرغ للحديث معنا , أو بالأحري للحديث الينا ونحن نستمع الي حكاياته الشيقة ومعلوماته المتدفقة الغزيرة 

وبراعة تحليلاته السياسية وحساباته المحددة عن وقت زوال اسرائيل وضعفها وهشاشتها ونية الولايات المتحدة القضاء عليها بعد وقت حددته وكالة المخابرات المركزية ..

كان يتنقل بنا من موضوع الي موضوع ونحن سعداء بما نسمع وسعداء بتبديد الملل الجاثم كالكابوس علي صدورنا ..

بعد عام وقع ما أثار أسفنا جميعا .. 

تم نقل الرجل الطيب الودود خارج المركز كله ..

بحثنا عنه حتي عرفنا طريقه وزرناه , وظل معظمنا علي تواصل معه بخطابات معايدة في العيدين ..

مضت السنين وتوالت وكبرنا , وظلت سيرة الرجل علي السنتنا , نذكره بخير يستحقه فعلا ..

ولأن الحنين للماضي سواء الأحداث أو الأماكن أو الأشخاص ,  عندي أقرب الي حالة مرضية , فلازلت أزور مدرستي الثانوية ,

 تارة أدخلها وتارة أقف الي جوار سورها مستعيدا ذكرياتي بالغة الجمال فيها , ولازلت أدور في شوارع وحواري مدينتنا الغالية  حيث تقع مدرستي الحبيبة ..

 ضغط علي هذا الحنين لأعرف طريق الرجل الطيب  ..

اتصلت بقريته , وعلمت أنه – أصلا – من الصعيد , ونزح والده للقرية وعاش وتوفي , وأن أبناءه جميعا هجروا القرية حيث مشت بهم أقدارهم ولا أحد يعرف مقره ..

لم أيأس , وضعت جدولا للحركة , كل حين أتجه ناحية ما لأصل الي خيط لأعرف مستقره ..

وأخيرا علمت أنه يقيم في مدينة الجيزة ..

ليكن ..

شددت الرحال الي الجيزة ..

كان قد مضي أكثر من ثلاثين عاما , علي تاريخ أخر مرة رأيت الرجل في مكتبه الذي نقل اليه ..

كانت مفاجأة سعيدة لي وللرجل , تلقاني بحفاوة شديدة , ونادي أبناءه فجاءوا وسلموا علي بحرارة , وبعد قليل انصرفوا ..

وطاب لي أن أستعيد ذكريات الأمس البعيد الجميلة , فرحت أذكره بما كان يلقي الينا من وافر علمه وثقافته ..

وبدأ الرجل الطيب يتحدث , واستعاد حماسة القديم , ونفس الحكايات الجميلة القديمة ..

كنت في شوق عارم لما سوف يقول ..

بدأ الرجل يسرد حكايات , وأنا منصت , لكني ضبطت نفسي – بأسف- قليل الحماس , ولمت نفسي علي هذا الشعور الرديء , ورحت أنصت , لكني الشعور بالفتور تحول الي ملل مما أسمع ..

تحركت حواس وروح القاضي المدقق الذي تعود أن ينصت الي الحديث لفرز غثه من سمينه وجيده من رديئة وقيمه من هزيله .

ورحت أسخف حضور روح القاضي التي لاتفلت كلمة حتي تضعها علي الميزان , وصاح صوت داخلي ( يعني حبكت معاك .. بالذمة ده وقته ؟؟؟؟ ) .. 

وواصلت الاستماع .. 

معظم المعلومات خاطئة , خاطئة يقينا , وبعض الاستنتاجات خارج حدود المنطق والعقل , غالبيتها وربما كلها تذكرني بكتاب اشتريته وأنا تلميذ صغير,

 كان يتحدث حديثا بالغ التشويق لي وقتها عن الجنة , وعدد الأشجار وعدد ثمرات كل شجرة وكيف أن لكل مؤمن سبعين الف شجرة وفي كل شجرة سبعون الف غصن وفي كل غصن سبعون الف حبة وكل حبة تكفي الف الأرض من عهد أدم الي يوم القيامة  لسبعين الف عام ..

حكايات بدت لي شيقة بهيجة مثيرة , وبعد قراءتها كنت أتحين الفرصة وأحيانا أخلقها لأستعرض علمي الغزير أمام الأقران وغير الأقران !

واصلت الاستماع , ولكن الحكايات انحشرت في عقلي .

صار جهادي ومبلغ حلمي الا يلاحظ الرجل الطيب اكتساء وجهي بمظاهر الملل والرفض  , وبدأت أزن ردود فعلي لتكون أقرب الي الواقعية , فأستزيده وأسأله وأستمع باهتمام الي مايقول ..

بعد ساعتين انصرفت ..

الرجل هو نفس الرجل الطيب الودود النقي المحب للناس .

وقد أسرني بلقائه الحار .. ولازلت أحمل له أجمل المشاعر الانسانية ..

لكن كل ذلك لايحول دون ما وسوست  به نفسي , كف عن خداع ذاتك , الرجل مع كل طيبته ونقاء روحه , جاهل وفكره تافه , ولابد أن تسلم أنك وباقي زملائك كنتم مبهورين بما يقول , ليس لقيمته , بل لأنكم كنتم أكثر       منه تفاهة .. لا تكابر ..

مع الأسف .. استحالت في رأسي الياقوته الزرقاء الجميلة الي قطعة زجاج ميتة لا تشع الهاما ..

لا محل للوم الوفاء بالطبع 

لكن تبعة الوفاء – هذه المرة – كسرت أيقونة الهام جميل استقر في وجداني طويلا !!

التعليقات (0)