- ℃ 11 تركيا
- 3 ديسمبر 2024
قراءة في رواية " في ظلال الرجال"
قراءة في رواية " في ظلال الرجال"
- 20 مارس 2021, 9:50:32 م
- 2246
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لطالما يؤرق المرءَ سؤالٌ عن البشر تحت الاحتلال أو أثناء حرب طاحنة ممتدة أو تحت وطأة مرض مزمن؛ هل هم مثلنا يأكلون ويربون ويضحكون ويتشاجرون ويشاهدون التلفاز ويحاول الرجل أن يكون "سي السيد" وتبحث المرء عن حريتها.. أم أنهم يرتدون الزي الكاكي ويحيط اللثام بوجوههم دائمًا؟ أما السؤال الثاني وهو هامشي ظاهرًا: ماذا فعل طول أمد الاحتلال بنفوس الفلسطينيين خصوصًا مع قوته الباطشة وتخاذل السياسيين الفلسطينيين وتراجع دور المقاومة الفلسطينية.. واتساع التمزقات الحادة بينها؟
من هنا تبدو رواية "في ظلال الرجال" الصادرة عن دار ابن رشد لنادية حرحش وهي كاتبة وباحثة فلسطينية تعمل محاضرة بجامعة القدس، وهي حاصلة على ماجستير الفلسفة الإسلامية من جامعة برلين الحرة بألمانيا، وتقيم في رام الله – محلا للبحث عن إجابة السؤالين، من خلال قصة امرأة متزوجة تحاول الحصول على الطلاق، والتخلص فيما بعد من مطاردة زوجها والحصول على حقوقها الكاملة.
الرواية الواقعة في 165 من القطع المتوسط تبدأ بتيمة صارت تقليدية؛ ثمة شخص يلجأ للروائي ليعترف، جرى ذلك في اسم الوردة لإيكو عبر أوراق ما وجدها البطل، و "ترمي بشرر" لعبده خال، الذي يضع قرب نهاية الرواية أنه كان جالسًا في "مول" اقترب منه رجل وسأله: هل أنت الروائي عبده خال؟ ثم شرع في قص روايته المفزعة.. ويبدو أن حرحش اختارت هذه الوسيلة لتخلي مسئوليتها عما ستقوله البطلة وقد يكون صادمًا، ولعلها فعلته باعتبار أن هذا سيسمح لبطلتها بالاعتراف الكامل غير المشروط؛ فالبطلة تريد كاتبة تصوغ قصتها: "أريدك أن أحدثك عني" و "أريد أن تكتبي قصتي فأنا أثق بأنك ستنقلينها بأمانة لأسباب ترينها بنفسك" .
تبدأ البطلة اعترافها بما ينبئ عن مشكلتها الأساسية فتقول: "ولدت في مجتمع ذكوري أصيل.. بعائلة تقليدية الفكر.. معتدلة التصرفات.. متوسطة التعليم، كانت أمي ابنة الخمسة عشر عامًا عندما زوجوها بأبي ابن التسعة عشر عامًا ليعقلوا تصرفاته.. كنت بين يدي أمي حينما أكملت عامها السادس عشر قبل أيام معدودة.. لا بد أنني تربيت بين أحلام المراهقات وشجن الجنون" هذه الفقرة هي العتبة السادسة للنص بعد العنوان، والإهداء، وأسطر موزعة فيما يشبه الشعر التفعيلي وإن خلت من وزنه، والتبرؤ من حقيقة النص، وادعاء وجود شخصية حكت النص للكاتبة لتنقله.
ستكون هذه الفقرة هي مركز النص فمنها سنتنبط أن الفتاة ابنة مجتمع ذي تقاليد صارمة ينزر للمرأة على أنها أداة للقيام بمجموعة وظائف: ليعقلوا تصرفاته. وكنت بين يدي أمي. هكذا المرأة في مجتمعاتنا التقليدية؛ للنكاح والحمل. لا رأي لها بل ولا رأي لزوجها أصلاً في اختيارها. لكن هذه المجتمعات رغم ما يظن من سكونيتها الظاهرة فإنها تسبح على بحر من (السورات) التي تغذيها أحلام المرحلة وصراع النفس مع القهر، وربما ظلت هذه السورات لا ظهور لها، وربما طفت على السطح كالبركان الذي لا يهدأ متمثلا في البطلة التي تحدت المجتمع لتحصل على الطلاق وتخرج بأبنائها من بيت زوجها.
تظل البطلة طول النص باحثة عن سبب لوقوفها صامدة هكذا؛ فتذكر أنها ذهبت لأبيها بمفردها وهي طفلة صغيرة، وأن هذا الأمر رغم استحسانه من الجميع أنهى طفولتها وجعلها تدخل في إطار المسئولية مبكرًا، وأنها منذ هذه اللحظة تعودت على أخذ القرارات الحاسمة والمضي فيها مهما كلف الأمر.
شخصيات النص يغلب عليها النمطية حتى البطلة التي تحاول أن تقدم نموذجًا مختلفًا عما هو في مجتمعاته، يظهر بعد حين أنها في تصرفات كثيرة أشبه بهن، بل إنها أكثر بحثًا عن رجل لتنضوي تحت ظلاله دون اعتبار لوضعها الاجتماعي الشائن – وفق كثيرين – فهي تحب رجلا ويعلم بذلك ابنها ويغلب على وصفها للرجال شعور الباحثة عن رجل مناسب.. ويقودنا هذا إلى السمة الكبرى التي تشمل العمل أبطالا ورؤية عالم: التشوه.
لا وجود لسبب حقيقي لكي تطلب المرأة الطلاق، لا موقف ضخم، ولا ممهدات، رجل يريد أن تبقى زوجته بمواصفات محددة وأن تحقق وظيفتيها، وهي تتفانى في ذلك وتضيف ادخارها وتفانيها من أجله، ثم دون إعداد لما سيأتي تأخذ خطوتها الكبرى؛ طلب الطلاق.. يتناثر بعد ذلك الحديث عن ضرب يقابله الانصياع لرغبتها في شراء ساعة باهظة الثمن تشتريها نكاية فيها.. فكيف تضع القرش على القرش لترفعه ماليا؟
التناقض يتسرب إلى محاولة التعايش مع المحتل؛ بل يبلغ ذروته حين تصف موقف جنود إسرائيليين أثناء تفتيشها فهناك جندي يأكل معطلا التفتيش بما يشبه الاستفزاز، وهناك جندي (لطيف) وهناك فرق متسرب بين وصف أداء شخص وتأويله، وبين وصف صريح يشبه المغازلة.
كيف تبدو القضية الفلسطينية لكاتبة فلسطينية أو لبطلتها سلب الاحتلال من أهلها كل شيء؛ الأرض والحياة والروح؟ بكلمة "لا جذور" نعم نحن أمام علاقة بلا جذور مع الأرض والقضية ففجأة تنبت الأهوال التي تحدث للفلسطينيين من واقع خوف الأم المفاجئ على ابنها وبناتها، ويتم استرجاع التفرقة بين "اليهود" و "إسرائيل" فوفق معلمة اللغة العربية "إسرائيل اسم مؤقت وضع على بدلنا وسيزول، أما اليهود فهو حقيقتهم" وها هنا يفاجئنا التشوه ثانية؛ فنحن أمام مقارنة بين دولة وجنس إثني، فإسرائيل أكذوبة مؤقتة حقيقتها، فلسطين: "كان اسمها فلسطين.. صار اسمها فلسطين" أما اليهود: "فهم أهل ديانة يتوزعون في كل بقاع العالم.. وليس كما قالت معلمة اللغة العربية في الرواية.
رام الله التي تظهر هنا، هي مدينة تعايش أهلها وأثروا وأكملوا حياتهم إلا بمشكلات لم تفلح لغة الرواية ومواقفها أن تجعلها كما نعرف؛ رام الله مريد البرغوثي.. التي يرتبط كل ما فيها بجذور الفلسطيني الأول، بمدينة حرحش العابرة في كلام عابر.
أهم ما يميز الرواية ههنا هو هذه التشوهات؛ إذ يمكن النظر إلى الرواية من زاوية الدراسات الثقافية؛ فيمكن من خلال اللغة والمضمون والتناول أن نقرأ كيف يفكر عدد من الفلسطينيين الذين عاشوا في هذه الفترة، وكيف تغيرت قناعاتهم؛ فبدلا من الحديث عن إخراج المحتل صار اللجوء لقانونه (الأكثر رقيا وعدلا) أو كما قالت الرواية: "حتى عند اللجوء إلى الآخر الأكثر ليبرالية وعدلا بالقوانين المتعارف عليها اليوم؛ القضاء الإسرائيلي" لا يمكن هنا أن نحاكم الرواية اجتزاء ولا أن نتهم الكاتبة بالتطبيع، ولا أن يرد بأن هذا من أقوال البطلة؛ فالقضية فنية بامتياز؛ إذ يبدو أن الكاتبة رغم درجتها العلمية والبطلة رغم ثقافتها نسيتا أن هذه القوانين مثل كل شيء وضعه الإسرائيلي على أنقاض بيت فلسطيني ومئات الشهداء؛ وما يسمح به للفلسطيني فلكي يقع في هذا الفخ؛ العدالة والخير والجمال.. بتعبير آخر؛ إنه الخداع في أجلى صوره.
حاولت الرواية تناول ما يحدث للمطلقة وما يقوله عنها المجتمع، ووضع بطلة الرواية في ثوبها البشري فتحب رجلا وتذهب معه إلى بيته بعلم ابنها وعلاقتها بوجود علاقة ، وحاولت أن تضع معاناة الشعب الفلسطيني وما يحدث له من مذابح؛ لكن الأمرين ظهر فيها بجلاء الادعاء.. فالمطلقة التي تدعي الشرف فيما تتقلب دون حرص، وفلسطين التي تبدو باهتة بقضاياها ومشكلاتها وكأنها وضعت من باب ذر الرماد في العيون.