قراءة في رواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح

profile
أحمد سراج مؤلف مسرحي وشاعر مصري
  • clock 17 مارس 2021, 7:06:11 م
  • eye 2860
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

موسم الهجرة إلى الشمال: حين يكون الموت حلًّا


(الرواية رقم 24 ضمن أفضل 100 رواية عربية الطيب صالح - السودان)

من هو "مصطفى سعيد"؟ هل يستطيع كاتب أن يغامر ببناء شخصية كاملة من الفراغ، مسندًا لها أحداثًا وكتبًا ومغامرات؟ وصل أمر المهتمين برواية "موسم الهجرة إلى الشمال" إلى هذا الحد فتقوم "جريزلدا" الطيب - فنانة بريطانية وباحثة في الأدب الأفريقي وقد تزوجت "عبد الله الطيب"، الكاتب السوداني – بالبحث والاستقصاء في تاريخ المبعوثين السودانيين لأوروبا وتتبع حيواتهم... والحق أن البحث طريف وبه شيء من التقارب بين أربع شخصيات وبين البطل؟ لكن هذا لا يُقدِّم ولا يؤخر كثيرًا في فنية رواية "الطيب وفي أثر شخصياته.. التي اجتهد في أن يحولها إلى ما يشبه الحكاية الشعبية فقد اختار لها راويًا بلا اسم، وجعل حكاية "مصطفى" شذرات على ألسنة من يقابلهم.


"الطيب صالح" (12 يوليو 1929 - 18 فبراير 2009)، ترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة وهي «موسم الهجرة إلى الشمال» و«عرس الزين» و«مريود» و«ضو البيت» و «دومة ود حامد» و«منسى». وتعتبر روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" واحدة من أفضل مائة رواية في العالم. وقد حصلت على الكثير من الجوائز، حولت روايته "عرس الزين" إلى دراما في ليبيا ولفيلم سينمائي من إخراج المخرج الكويتي خالد صديق في مجال الصحافة، كتب "الطيب صالح" خلال عشرة أعوام عمودًا أسبوعيًا في صحيفة لندنية تصدر بالعربية تحت اسم "المجلة". خلال عمله في هيئة الإذاعة البريطانية تطرق الطيب صالح إلى مواضيع أدبية متنوعة. منذ عشرة أعوام يعيش في باريس حيث انتقل بين مهن مختلفة، آخرها كان عمله ممثل اليونسكو لدول الخليج.


نحن أمام مبعوث عاد إلى قرية عزلاء مسالمة بعد أن أنهى دراسته في إنجلترا، منتظرًا تعيينه في العاصمة السودانية، يجد هذا المبعوث الذي يتحول إلى راوٍ مشارك للنص.. أهله في انتظاره ومعهم شخص غريب عن القرية.. يعرف الراوي| البطل من جده أنه مصطفى أحد أبناء الخرطوم وأنه تزوج من فتاة من القرية.. وأن عائلة الفتاة مخطئة لكن هذا شأنهم كما أن مصطفى رجل بكل ما تعنيه الكلمة.

يتقدم الراوي خطوة من حكاية مصطفى حين يكتشف أثناء زيارة الأخير له الأدب واللياقة اللذين يملأن حديثه.. وهكذا ينفتح الباب عن سؤال آخر: لماذا هو مختلف؟ ولا تترك الأيام الراوي تائهًا؛ فذات يوم يتورط مصطفى في شرب الخمر مع الراوي ورفيقه رغم رفضه، وهنا يلقي قصيدة بإنجليزية صافية ثم يمضي تاركًا الراوي في حيرة هائلة.. لكنه سرعان ما يأخذ الراوي ليحكي له حكايته.


رأس جبل الثلج هو ما يظهر أمام الناس في القرية، وبالحكاية يظهر جبل آخر مختلف بالكلية؛ فكأن "مصطفى" يرهقه هذا القناع، وكأنه يبحث عمن يعترف له بكل ما جرى – من وجهة نظره – ويسلمه ما لديه أمانة في عنقه.. ويمضي مهاجرًا إلى الشمال.


"مصطفى سعيد" الملازم للصلوات هو على الحقيقة زير نساء، رجل بلا عاطفة، تخيل أنه يستطيع الرد على ما جرى من احتلال بالجنس لذلك لم يترك امرأة قابلها، وكأنه يثبت قوة هذا الغول الإفريقي الهائلة، ورغم أن معظم النساء اللاتي مر بهن، كن يستحققن معاملة أفضل فإنه ترك نفسه تسير نحو التدمير والتدمير فقط.. ما من امرأة عاشرها إلا وانتهت حياتها بفاجعة.


الحكاية تبدأ من يتم "مصطفى" وتركه هو وأمه ميسورين، لكن دون عائلة، ودون تعليم، وذات صدفة يلتحق "مصطفى" بالتعليم ويبرع فيه، يثير الناس ولا يثار: "عقلي كأنه مدية حادة، تقطع في برود وفعالية. لم أُبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم. كان المعلمون ينظرون إليَّ كأنني معجزة، وبدأ التلاميذ يطلبون ودي. لكنني كنت مشغولًا بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي. وكنت باردًا كحقل جليد، لا يوجد في العالم شيء يهزني. طويت المرحلة الأولى في عامين، وفي المدرسة الوسطى اكتشفت ألغازًا أخرى، منها اللغة الإنكليزية فمضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث. الكلمات والجميل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية، والجبر والهندسة كأنها أبيات شعر. العالم الواسع أراه في دروس الجغرافيا، كأنه رقعة شطرنج. كانت المرحلة الوسطى أقصى غاية يصل إليها المرء في التعليم تلك الأيام. وبعد ثلاثة أعوام، قال لي ناظر المدرسة، وكان إنجليزيًا: " هذه البلد لا تتسع لذهنك، فسافر. اذهب إلى مصر أو لبنان أو إنجلترا. ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن" قلت له على الفور: " أريد أن أذهب إلى القاهرة"

في القاهرة يقابل مسز روبنسون وزوجها ويعكفان على تربيته حتى يتهيأ للسفر إلى بريطانيا وهناك يستمر تفوقه ويتم تعيينه بالجامعة ولما يتم العشرين، وهنا تظهر علاقاته الجنسية الكثيرة، وأسماؤه المتعددة: " حسن، وتشارلز، وأمين، ومصطفى، وريتشارد" ونساؤه الولهات: " في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923، في هذه الفترة وحدها على سبيل المثال، كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد[آن همند وشيلا جرين وود، وإيزابيلا سيمور]" وتنتهي هذه العربة الطائشة بقتله زوجته جين موريس التي قال له أكثر من شخص في الشارع: "إنها عاهرة"، وحبسه سبع سنوات.


الفجوات والمطاردة هما ما يشغلان الراوي بعد أن ينهي مصطفى حكايته: فهل حكى ما جرى؟ وأين اختفى بعدها وجوازه مملوء بالأختام لبلاد أوروبية وآسيوية؟ ولماذا لم يدافع عن نفسه مطلقًا؟ ثم لماذا آثر هذه العزلة وهو عالم اقتصاد قدير؟ وكما ظهر مصطفى فجأة، فقد رأى البلدة وارتاحت نفسها إليه، اختفى فجأة في أحد الفيضانات التي لا تأتي كثيرًا.. وترك للراوي أسئلة مطاردة جديدة، ووصية بزوجته وابنيه.


كلما وطئ أرضًا الراوي وجد أثرًا لـ"مصطفى" منذ بداية تعلمه، حتى سفره وفاجعته، ومع كل رواية يبدو وجه جديد لمصطفي"، وكلما حاول الراوي إيهام نفسه بالخروج من سجن "مصطفى" وهيمنة حكايته، ظهر خيط جديد زاد إيثاقه بالحكاية؛ ويمكنك أن تلمح صورة السودان "المختلط" بأوربا في "مصطفى" بتبسيط قد يكون مخلًا: ماذا لو أن "مصطفى" يتيم الأب، هو السودان الذي تعهدته بريطانيا.. ولو دققنا النظر في نساء مصطفى فهن صور من بريطانيا ذاتها؛ البنات اليانعات الخارجات من معركة قادتها أمهاتهن لحرية المرأة، أجيال ما بعد الحرب العالمية الاولى وأزماتها النفسية، ضحايا الداخل البريطاني الذي حاول الحفاظ على مستعمراته بتربية وكلائه – تحسبا لما بعدالكولونيالية – فهل كان مصطفى سعيد رمزًا لعالم غارق في وحل الاستعمار والانتهاك والتشويه والأكاذيب، أو عابرًا سقط مصادفة في وحل أعد بعناية؟


الرواية رغم عدد صفحاتها الصغير 176 من القطع المتوسط في طبعتها الأولى 1966 عن دار العودة ببيروت، فإنها حافلة بتفاصيل ثرية، ومفارقات كبيرة، وبوصف مسهب وظيفي لأماكن مختلفة، وباستبطان لنفس الراوي، وبتحليل لنفوس من أمامه وكلامهم، إضافة إلى حزمة من القضايا المتشابكة المتداخلة نظرًا للفترة التي غطتها أحداث النص منذ العقد الأول للقرن العشرين حتى العقد الرابع، وهي فترة التغيرات الكبرى في أحوال الدول المستعمرة، خصوصًا في ظل الحرب العالمية الأولى، وسعي المحتل إلى زيادة سيطرته عبر أبناء الدول التي احتلها؛ بتعليمهم وتثقيهم على طريقته.


اللافت أن ما سماه مصطفى سعيد بالداء الذي انتقل منه إلى عشيقاته الكثر؛ فأدى إلى تحطم حيواتهن بالانتحار، هو ما حدا زوجته السودانية الوحيدة إلى التمسك به، ورفض أي زوج غيره، إلا زواجًا اسميًّا عابرًا، ودفعها لمواجهة تقاليد العالم من أجل رجل عاشت معه سنوات معدودة.. رغم أن الوجه الذي عاش به مصطفى معها هو قناعٌ (الرجل الملتزم المسالم الفلاح) عن قناع (عالم الاقتصاد المؤمن بالأسطورة والحب وبما وراء الأرقام) عن أصل (غير معروف لصاحبه).


ذات مرة قال سياسي إن العلاقة بين دولته العربية وبين محتلها زواج كاثوليكي، بعدها قتلته مجموعة وطنية، بعدها صار أحد أعضائها رئيسًا للدولة، بعدها قال: إن 99% من أوراق اللعبة في يد المحتل، بعدها قتلته جماعة متطرفة، بعدها تم تكريم قاتله وجماعته، بعدها هنأت جماعة القاتل المحتل وخطبت وده.. هكذا لا يفترق الوضع في قليل أو كثير فمصطفى الذي يبدو مناضلا في بعض المقاطع يشاع أنه كان أحد رجال الاحتلال: "مصطفى سعيد كان أول سوداني تزوج إنكليزية، بل أنه كان أول سوداني تزوج أوروبية إطلاقًا. أظن أنكم لم تسمعوا به، فقد نزح من زمن تزوج في إنكلترا وتجنس بالجنسية الإنكليزية. غريب أن أحدًا هنا لا يذكره، مع أنه قام بدور خطير في مؤامرات الإنكليز في السودان في أواخر الثلاثينات. إنه من أخلص أعوانهم. وقد استخدمته وزارة الخارجية البريطانية في سفارات مريبة في الشرق الأوسط. وكان من سكرتيري المؤتمر الذي انعقد في لندن سنة 1936. إنه الآن مليونير، ويعيش كاللوردات في الريف الإنجليزي" وسواء أكان مصطفى هكذا ووصل فارًّا، أو أنه كان كما دافع عنه الراوي: "مصطفى سعيد ترك، بعد موته، ستة أفدنة، وثلاثة بقرات وثورًا، وحمارين، وإحدى عشرة عنزًا، وخمس نعجات، وثلاثين نخلة، وثلاثًا وعشرين شجرة بين سنط وطلح وحراز، وخمسًا وعشرين شجرة ليمون ومثالها برتقال، وتسعة أرادب قمح وتسعة ذرة، وبيتًا مكونًا من خمس غرف، وديوان، وغرفة واحدة من الطوب الأحمر، مستطيلة الشكل، ذات نوافذ خضراء، سقفها ليس مسطحًا كبقية الغرف ولكنه مثلث كظهر الثور، وتسع مائة وسبعة وثلاثين جنيهًا وثلاثة قروش وخمسة ملاليم نقدًا " فإن أحوال الناس دون الاستعمار أفضل بكثير مما آلت إليه بعد احتكاكهم بهم.. فأولئك الذين يعيشون في أراضيهم ولا يعتنون بالذهاب إلى مدارسه أفضل مسيرات ومصائر من أولئك الذين مسهم شيطان الاستعمار حتى لو جاء في إهاب الملائكة.. هل لهذا أفرط الراوي – حد إيقاف زمن الراوية اللاهث من خلال الحوار بين أهل القرية العزلاء – في الوصف المسهب لأحوالهم المعيشية البسيطة والمقارنة بين النمطين السائدين؛ من يعدد الزيجات ومن يكتفي بواحدة؟


نعم تمثل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" نصًّا من نصوص العلاقة بين الشرق والغرب، وإن امتازت عن "الحي اللاتيني" في أنها جعلت البعد السياسي والاجتماعي لكلا البلدين حاضرين بقوة، وعن "عصفور من الشرق" بأنها جعلت أبطالها من لحم ودم لا أفكارًا وصورًا، وعنهما أنها اعتنت باللحم الحي من الجانبين؛ فمشكلات المدارس والمستشفيات، وطموح أبناء القرى ليصبحوا وزراء كي يصلحوا الأحوال، ويأس من وصلوا المناصب في الإصلاح، يقابله تلك المراجعات الفاتنة للنفس فبعض أهل ضحايا مصطفى سعيد يقدمون تفسيرات تبرئه، وبعضهم يندفع للانتقام منه..


كل شيء ناقص في الرواية.. كل شيء مشوه.. حتى انتقام مصطفى من الغرب ومحاولته ان يكون إله وثنيته.. لا يكتمل.. ولا يكمل.. لا إكمال سوى في الهروب إلى الشمال، الهروب من الأكذوبة في الغرب.. وفي الجنوب: "مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل، استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه. هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض

عضال أصابهما منذ ألف عام ". وخطر لي أن أقف وأقول لهم: " هذا زور وتلفيق. قتلتها أنا. أنا صحراء الظمأ. أنا لست عطيلاً. أنا أكذوبة. لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة ! " لكن بروفسير فستر كين حوَّل المحاكمة إلى صراع بين عالمين، كنت أنا أحد ضحاياه"


كلمات دليلية
التعليقات (0)