- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
لطفي العبيدي يكتب: نائل ماذا لو كانت سحنته فرنسية أو أوروبية؟
لطفي العبيدي يكتب: نائل ماذا لو كانت سحنته فرنسية أو أوروبية؟
- 14 يوليو 2023, 12:32:58 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
المفاهيم الأخلاقية للمجتمع الدولي، تختفي حين يتعلق الأمر بالدول النامية والفقيرة، خاصة بالأقليات والمهاجرين في الدول الغربية. والاحتجاجات العنيفة التي اندلعت في فرنسا هي تعبير واضح عن الغضب، والإحباط والعزلة والفوضى، في وقت يعيش فيه المجتمع الفرنسي انقسامات عميقة، وتشهد فيه أفكار اليمين المتطرف انتشارا متزايدا، كما تطغى الشعبوية على المشهد السياسي والإعلامي.
يبدو أن الواقع الاجتماعي بما يحمله من مشاكل بنيوية، لم يغادر الأطر الموضوعية لعام 2005 حين اشتعلت فرنسا بكاملها على مدى ثلاثة أسابيع، ما دفع الرئيس الراحل جاك شيراك إلى إعلان حالة الطوارئ، بعد وفاة شابين صعقا في محطة للكهرباء أثناء اختبائهما من الشرطة. تجد الأزمة الحالية، التي بالكاد خمدت وتيرتها، جذورها هي الأخرى في التاريخ الاستعماري الفرنسي، وصولا إلى هجرة اليد العاملة في الستينيات من القرن الماضي، حيث تم إنشاء مجمعات وظيفية في ضواحي المدن، تدهورت بمرور الوقت، وأصبحت أماكن للإقصاء والتهميش ونقص التعليم والآفاق. أضف إلى ذلك عنف الشرطة المفرط، لاسيما في البؤر الاجتماعية الساخنة، التي غالبا ما تتميز بالاتجار بالمخدرات والجريمة. صحيفة «دي فولكس كرانت» الهولندية لخصت الوضع الحالي في فرنسا عندما أشارت إلى أنه لا يمكن بسهولة تغيير وضع التركيز الشديد للفقر والأقليات العرقية في عدد محدود من الضواحي. ومع ذلك، يمكن اتهام الرئيس ماكرون بتخليه وبسرعة عن الاهتمام بمشاكل هذه الأحياء، ففي وقت مبكر من عام 2018، وضع جانبا تقريرا يتضمن مقترحات طموحة لمحاولة حل هذه المعضلة. غير أن الضواحي تذكر بنفسها دائما، فهي غير قابلة للنسيان، كما أظهرت الأسابيع القليلة الماضية.
الأنا الأوروبية المضخمة، هي من أبرز محددات التباعد وإلغاء ثقافة الحوار والتواصل، ما انجر عنه ردات فعل إقصائية في كثير من الأحيان
تعشق فرنسا دوما التذكير بنموذجها الجمهوري: كل الفرنسيين متساوون، بغض النظر عن لون البشرة أو الدين أو الأصل، لكن الفجوة بين هذا الطموح من جهة وممارسة الحرمان والتمييز والعنصرية من جهة أخرى، هي بالضبط ما يجعل الانقسامات الاجتماعية في فرنسا أكثر مرارة. يشعر الشباب في الضواحي بالرفض والاحتقار من قبل «جمهورية لا تستطيع أن ترقى إلى مستوى مُثلها العليا». في وقت تزداد فيه قوة اليمين الشعبوي في أوروبا عموما، أعادت حادثة قتل الشرطة للمراهق نائل، قضية الهجرة وما يرافقها من تهميش وعنصرية، لصلب الاهتمامات لدى الرأي العام. ولم تكن موجة الاحتجاجات الغاضبة سوى تعبير واضح عن أزمات بنيوية في صلب المجتمع الفرنسي، الذي لم تلتفت مؤسساته السياسية إلى مثل هذه المشاكل. على العكس نجدها تتعنت في تمرير القوانين عنوة، ومعالجة الغضب والاحتجاج من خلال العصا الأمنية لا غير، هذا حال ماكرون في فرنسا. ولم يعد خافيا تنامي الشعور بانعدام الأمن في أوساط الأجانب والمهاجرين، تزامنا مع صعود أحزاب اليمين المتطرف في عدد من بلدان القارة. زعيمة ائتلاف اليمين المتشدد جورجيا ميلوني، تتولى منصب رئاسة الوزراء في إيطاليا. يواصل حزب «فوكس»، المعروف بمعاداته للمهاجرين، اختراقه للانتخابات في إسبانيا، ويحظى بمزيد الأصوات ليحصل على 52 مقعدا. في فرنسا أيضا تمكن حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، من خلق المفاجأة وتحقيق فوز تاريخي في الانتخابات التشريعية لسنة 2022، إذ حصل على 89 مقعدا. في ألمانيا، استفاد حزب «البديل من أجل ألمانيا» من أزمة اللاجئين، فحصد أصوات المعارضين للهجرة، واستطاع دخول البرلمان الألماني. وفي السويد، حقق حزب «ديمقراطيو السويد» اليميني المتطرف مكاسب انتخابية كبيرة، في انتخابات سبتمبر 2022، وأصبح المنافس الأول للحزب الديمقراطي الاجتماعي. ثقافة التعددية والتنوع، التي يُزعم أن قاطرة التنوير في أوروبا تقوم على أساسها، لا وجود لها في الممارسة في ظل انتهاكات العنصرية المتتالية. حتى المؤسسات الرسمية في فرنسا عكست ثقافة العنصرية، ويكفي التذكير بقرار الجمعية الوطنية قبل مدة تعليق عمل النائب البرلماني عن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، غريغوار دو فورناس، بسبب إطلاقه تصريحات عنصرية في حق زميله النائب كارلوس بيلونغو، ذي البشرة السوداء. مثل هذه السلوكيات تكررت في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا في مشاهد قتل واعتداءات عنصرية تعكس تنامي الإسلاموفوبيا. وفي اليونان التي تُعد طريقا حتميا لكثير من المهاجرين وطالبي اللجوء الراغبين في العبور إلى دول أوروبية، تم تسجيل الكثير من حالات الاعتداءات العنصرية في حق المهاجرين. أما في السويد فالسلوك العنصري اتخذ طابعا مؤسسيا، وبات مؤطرا بالقانون، بعد أن أصدرت المحاكم قرارات تسمح بانتزاع أطفال لاجئين من عائلاتهم وتسليمهم إلى عائلات سويدية، بينها أسر مثلية. في الأثناء، اليمين الشعبوي في أوروبا عامة، استغل حادثة مقتل نائل وما انجر عنها من مواجهات بين المحتجين والشرطة، ليؤكد قناعته بفشل نموذج المجتمع المتعدد الثقافات في أوروبا، وكثير منهم أشار إلى فشل أحزاب الوسط الحاكمة، وتهاوي المركز، وأن حكام الدول الأوروبية يغلقون أعينهم، ويغلفون أنفسهم في عالم من الأخبار المزيفة، الذي يدور حول النوع الاجتماعي وهوس المناخ ومحاربة اليمين المتشدد. ولا يقدر الرئيس إيمانويل ماكرون على فعل شيء، فهو لم يقدم أي تصور شامل لحل هذه المعضلة من جذورها. ومرة أخرى سيحاول دفن رأسه في الرمال في انتظار مرور العاصفة. الأنا الأوروبية المضخمة، هي من أبرز محددات التباعد وإلغاء ثقافة الحوار والتواصل، ما انجر عنه ردات فعل إقصائية في كثير من الأحيان تحت عناوين العنف والارهاب والصدام الأيديولوجي. والكولونيالية بشكل خاص، حافظت على نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري في مستعمراتها السابقة، خاصة في القارة الافريقية، حيث تدعم فرنسا حكاما عملاء لها، مستبدين، ولا يخدمون مصالح شعوبهم، بل يحافظون على نفوذ المستعمر القديم الذي يستنزف هذه البلدان ويفقرها من مواردها وثرواتها. ورغم مرور قرون على القمع العنصري للأقليات وسكان المستعمرات السابقة، إلا أن هذا الماضي الاستعماري الأسود يتجدد في ذاكرة المهاجرين حتى الجيل الثاني والثالث منهم. يكفي أن أغلب المتظاهرين هم من فئة الشباب القصر. ويعود أصل العديد من هؤلاء الشبان إلى المستعمرات الفرنسية السابقة، ويعيشون فيما يُعرف بالضواحي. وهي ضواحي المدن الكبرى مثل باريس ومرسيليا وليون. ويتعرضون للتوقيف من قبل الشرطة بشكل لا يقارن بالآخرين، ما يؤكد أن هناك مشكلة عنصرية ممنهجة داخل جهاز الشرطة الفرنسية، رغم نفي الحكومة الفرنسية لذلك. هو إذن تقليد استعماري محافظ، ومثل هذا السلوك قد يصطدم بطموحات قومية تحررية لم تعد تقبل باستنزاف أوطانها، وسرقة مقدراتها، في وقت تبتلع قوارب الموت أبناءها ضمن موجات الهجرة غير النظامية، تُعتبر دول استعمارية بعينها هي المسؤولة عنها. وما زالوا يبحثون عن علاج للنتائج متغافلين عن الأسباب التي أوصلت إلى مثل هذه المآسي المتواصلة. هذا الكم الهائل من العنف والتدمير العشوائي للمحال التجارية وغيرها، له أسبابه بالتأكيد، أقلها حالة الغضب في الشوارع ضد العنصرية المنهجية داخل المجتمع الفرنسي، وارتباطها بماضي البلاد الاستعماري. وهي قضية غالبا ما يتم تجاهلها من قبل المؤسسات السياسية في فرنسا. توقفت الاحتجاجات لكن ما سيبقى هو الغضب الذي يمكن أن يتجدد في أي وقت ليكشف من جديد أن العنصرية والازدواجية هما ما قامت عليهما تلك الدول في الأساس.
كاتب تونسي