- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
د.يحيى القزاز يكتب : مأساة المعلم.. أستاذا الجامعة مثالا
د.يحيى القزاز يكتب : مأساة المعلم.. أستاذا الجامعة مثالا
- 7 يونيو 2021, 9:50:41 م
- 1987
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
بالصدفة استمعت لهذه الأبيات مغناة ضمن قصيدة "العلم والتعليم وواجب المعلم" لأمير الشعراء أحمد شوقى بصوت المطرب الفلسطيني محمد عساف. فأسالت دموعى حزنا على زميل رحل فجأة مصابا بفيروس كورونا "كوفيد19". أعرف أن الموت حق، وكلنا طالت الأعمار أم قصرت سنموت، لكن العدل مطلوب. وهو مالم يتحقق مع زميلنا رحمه الله. زميلنا هذا كانت حياته محصورة بين جدران الجامعة مع طلابه وأبحاثه وزملائه والإدارة. ومهما تختلف معه لا تملك إلا أن تحبه. ولا يمتد الخلاف معه لأكثر من ساعات، وبعدها يعاود السؤال وكأن شيئا لم يكن. قضى ستة أعوام رئيسا لمجلس القسم لم يهدأ له بال، مشغول بتطوير القسم. كان القسم بيته الثانى أو فعليا كان الأول فعدد الساعات التي يقضيها في القسم أكثر من التي يقضيها في منزله. يذهب لبيته متأخرا للنوم ويستيقظ مبكرا للذهاب للجامعة. في الأجازات الرسمية تجده في القسم يرتب الأوراق ويصلح الآلات بيديه، ويشترى على حسابه مايستطيعإن لزم الأمر. كان يمكن أن يصل لدرجات أعلى من رئيس قسم في الإدارة -وهو جدير بها-- لكن اعتزازه برأيه حال دون ترقيته. وللأسف خسرت الإدارة كفاءة إدارية حبستها في رئاسة القسم لأن له رأى ولا ينقاد بسهولة.
كنا نتناقش كثيرا ونختلف في الصباح ونتواصل في المساء. نحكى عما بداخلنا، ونتبادل الطرائف. ونحكى بالساعات تليفونيا في وقت راحته في منزله، ونمزح في كل شيء كالأطفال. وكان أهم مايميزه مهما اختلفت معه أنه رجل بمعنى الكلمة خارج أسوار الجامعة، لا مكان للاختلاف في قلبه إذا ألم خطب بزميل. تراه يجرى في كل اتجاه لينهى متطلبات الزميل ودوما في خدمته ويساعده إن كان بيده مساعدة شخصية، وحدث هذا مع كثيرين. وهو عاطفى برغم مايبدو عليه من صلابه. تدمع عيناه وينتحب على فراق زميل في الجامعة حتى ولو عرفه منذ فترة قليلة. كان خدوما لا يضاهيه أحد في عيادة زملائه المرضى في المستشفيات وفى المنازل.. حدث هذا معى. ودود معهم أكثر خارج العمل، ويعامل طلابه كأبنائه. نموذج متفرد، وبعيدا عن مسئوليات العمل وضغوطه، كان رجلا بمعنى الكلمة رحمه الله.
مات زميلى قبل الإحالة للمعاش بأربعة أشهر تاركا ثلاثة أبناء وزوجة تعمل مدرسة. مكافأة نهاية الخدمة له للأسف لا تمنحها الجامعة، تمنحها هيئة التأمينات الاجتماعية وقدرها 40 ألف جنيه مصري (على أيامى كانت 34 ألف جنيه رفعوها ستة آلاف بسبب التضخم.. يشكروا). الجامعة ضيف شرف في حياة أستاذ الجامعة لا تمنحه شيئا عندما يبلغ سن المعاش سوى تعاقد بقانون تحت مسمى "أستاذ متفرغ يحصل بموجبه على مكافأة تعينه على مصائب الدهر في آواخر العمر. لا تعطيه شيئا البتة. والمعاش حوالى 2600 جنيه. زميلنا رحمه الله كان يجهز ابنته لزواجها، ويساعد ابنه في تأثيث شقة الزوجية. رحل زميلنا تاركا معاشا 2600 جنيه مصري وتجهيزات لم تنته بعد والتزامات مستحقة.
أسمع صوتا ينادى ""ماكلنا على هذا الحال!" أجيب: نعم، لكن هناك من يتخرج وعمره 22 سنة ويعمل في أماكن حكومية معينة ويحصل في بداية تعينه على 12 ألف جنيه منذ سنوات (أقول أماكن حكومية ولس قطاعا خاصا). وعندما مات زميلنا كان دخله 10 آلاف جنيه شهريا. وبموته يحصل على 2600 جنيه معاشا فكيف تستطيع زوجته أن تنفق على ما تورطوا فيه وهو واجب عليهم لأبنائهم؟! أستاذ الجامعة ليس بأفضل من أحد وهو واحد من الشعب يعانى مثلهم لكنه يبدأ حياته بعد حصوله على الدكتوراه اى بعد الثلاثين عاما من عمره براتب قدره 6 آلاف جنيه، قارنوا هذا الراتب براتب نظيره في العمر في القضاء أو الخارجية أو غيرها من الجهات السيادية، وهو من علمهم! ولن نتحدث عمن في البترول أو الكهرباء او القطاع الخاص، وعمره يضيع بين البحث والمراجع، ولا يترقى أوتوماتيكيا كغيره في الوظائف الأخرى بل يترقى بإنتاج علمى جديد من الأبحاث، فهو يقضى طول عمره طالب بحث علمى. تلميذ في محراب العلم. هناك بعض الأساتذة المحظوظين لكنهم قلة واستثناء يحصلون على الغنائم والمناصب.
ونحن نطالع الاخبار نقرأ في الجريدة الرسمية أن الرئيس أصدر القرار رقم 101 لسنة 2021 بشأن منح معاشات استثنائية لبعض ضباط الصف المتطوعين والمجندين السابقين بالقوات المسلحة والمستحقين عنهم. في المادة الأولى يمنح معاش استثنائي مقداره 900 جنيه شهريًا للمجندين السابقين المذكورين والمنتهية خدمتهم. وفي المادة الثانية يمنح معاش استثنائي مقداره 900 جنيه شهريًا للمستحقين عن ضابط الصف المتطوع المنتهية خدمته، وهذا شيئا جيدا ونقره. بحثت عن قرار رئاسى بمعاش استثنائى لأستاذ الجامعة الذى يتوفاه الله، وهو من حُرم من مكافأة الأستاذ المتفرغ بموته، فلم أجد، وأتسائل لماذا لا يمنح معاشا استثنائيا يليق بدوره وهو من أفنى حياته معلما للأجيال وباحثا من أجل تطوير المجتمع؟! أرجو أن تقارنوا بين معاش صف الضابط ومعاش أستاذ الجامعة ليعرف الناس الفرق. وأرجو أن يقارن الناس بين مكافأة نهاية الخدمة للجهات السيادية والقضاة والخارجية ناهيك عن الكهرباء والبترول وبين أساتذة الجامعة. قارنوا بين راتب أستاذ كلية الحقوق وتلميذه الذى صار معاونا للنيابة في بداية حياته، قارنوا بين أستاذ الجامعة ومن في عمره وهو رئيس محكمة، ولن اتحدث عن ضباط الشرطة والقوات المسلحة.
الاهتمام بالمعلم واجب وأهمهم أو أولهم معلمى مراحل التعليم الأُوَل فهم الأساس، ولولاهم ماصار لدينا تعليم جيد ولا صرنا أساتذة جامعات. فلولا الأساس ماارتفع بناء. والأساس المتين يرتفع فوقه صرح عال متين.
هل كان يدرك أمير الشعراء أحمد شوقى معنى ما قاله عن المعلم وواجب الوفاء بتبجيله وتقديره أم أننا -نحن- لا ندرك معنى ماقال أم أنه أراد أن يذكر السلطة بقيمة المعلم عندما تتجاهله؟! إن دولة لاتهتم بمعلميها هي دولة تفرط في ذخيرة أمنها القومى. التعليم هو أمن قومى وهوية وطن.
أساتذة الجامعات الذين توفوا يجب أن يحصلوا على معاش استثنائى أسوة بضباط صف وجنود القوات المسلحة بل وأكثر. ويجب أيضا أن تتساوى رواتبهم بالهيئات القضائية ومن في الخارجية، فهم من علموهم القانون كى يحكموا بالعدل ويسوسوا دولهم. نطالب بمساواة كما ساوى الرئيس السيسى بين رواتب الهيئات القضائية وقرر توحيد المستحقات المالية بين الدرجات المناظرة في الجهات والهيئات القضائية الأربع؛ القضاء ومجلس الدولة والنيابة الإدارية وقضايا الدولة. مع كامل الاحترام لولا المعلم ما كانت تلك المؤسسات وما صار عاملوها في تلك الأماكن.
نعرف أن المجتمع غالبيته تعانى، ونحن لا نطلب ميزة، نحن نطالب بحق مقابل عمل يتطلب أشياء كثيرة من سهر الليالى وتنقيب واشراف على رسائل علمية ومناقشتها. الإشراف على الرسالة للأستاذ كان 113 جنيه، قالوا ستزيد. وحضور جلسة مجلس القسم 50 جنيه لم تصرف باستمرار، وجلسة مجلس الكلية اظنها 500 جنيه. انظروا كم مقابل حضور جلسات جمعيات عمومية لمجالس إدارات أعضاؤها في الدرجة اقل من درجة أساتذة الجامعة. عشرات الألاف من الجنيهات وأكثر. وإذا كان الضابط يحمى الحدود والأمن الداخلى، فالمعلم بصفة عامة من الابتدائى للجامعة يحمى المجتمع من الجهل. والجهل هو السوس الذى ينخر في عظام المجتمع فيصيبه بالكساح ويُسَهل غزوه. انقذوا المعلم بشكل عام، فهو ذخيرة المجتمع في حرب الجهل، وآداة تطويره، وإنتاج المستلزمات التكنولوجية التي تصنع محليا ولا يبيعها الغرب لنا. هل رأيت الغرب يبيعنا قنبلة ذرية أو سلاحا متقدما؟! هذا ماينتجه العلماء ويستخدمه الضباط والجنود في الحرب. نكرر التعليم أمن قومى. فيجب زيادة موارده، والاهتمام بالمعلم، وزيادة راتبه ومعاشه أسوة بالقضاة والخارجية والجهات السيادية. قد لايصدق الناس عندما نقول اننا لانتمتع بتأمين صحى جيد، ونحصل على 5 بونات للكشف الطبي على مدار العام ندفع نصف التكلفة، حتى الطوارئ غيرمؤمن علينا فيها، فإن حدث طارئ تدفع أولا ثم تدخل المستشفى، وبعدها تستردها إن أقرتها اللجنة الطبية التابعة للجامعة، وهى لجنة من المحظوظين تتقاضى ألوفا على حساب المرضى. إذا كان هناك مستشفى تقرر حالة المريض ومرضه، فما فائدة اللجنة الطبية سوى وضع عراقيل العلاج واجراء العمليات وتقاضى المكافآت. منذ أكثر من عشر سنوات توفى أحد زملاء الجامعة في مستشفى لم تدفع الجامعة مصاريف علاجه فقرروا حجز جثمانه، فتعهد زملاء بالدفع واستخرجوا الجثة.
نحن في مأساة يمنعنا الحياء من الحديث عنها.. لكن طفح الكيل في غياب الضمير. وأنا أكتب هنا متحررا من الحاجة، فالباقى من عمرى قليل وإن طال فإدارة الجامعة تلاحقنى حتى الآن بقضيتين بمجلسى تأديب، التهم المنسوبة إلى عقوبة كل منها الفصل من الجامعة، فإن طال بى العمر في الحياة لن يطول بى في الجامعة. لذلك أكتب متحررا من الحاجة الخاصة، أكتب عن حق جيل جديد يجب وأن يأخذ حقه في راتب عادل ومستحقه في تقدير وحياة كريمة. الجيولوجى والكيميائى والمهندسن في شركات البترول والتعدين والكهرباء الذين يتقاضون الكثير والكثير هم تلاميذ لأساتذة (بدءا بمعلمى الابتدائى انتهاء بأساتذة الجامعة) مازالوا يأخذون القليل، ولا تقدرهم سلطات الدولة حق قدرهم. وهذا غير مقبول. المعلمون ومنهم أساتذة الجامعة هم العلماء، أعظم من الأباطرة والملوك والقياصرة ودون مرتبة الأنبياء بقليل، وفى قول مأثور هم ورثة الأنبياء، فالنبى معلم. عرف أمير الشعراء أحمد شوقى قدر المعلم فكرمه وخلده بقصيدة رائعة لا تضيع: ُقم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا / كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا.
#المقاومةهىالحل