- ℃ 11 تركيا
- 23 نوفمبر 2024
محمد قدري حلاوة يكتب : الإختيار
محمد قدري حلاوة يكتب : الإختيار
- 12 يونيو 2021, 4:00:59 ص
- 1682
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كان دائما ما يترك نفسه في يد الأقدار.. حريصا أبدا ألا يتخذ موقفا أو يختار وينحاز إلى جانب أو آخر..كثيرا ما أقنع نفسه كلما حدث له موقفا أو ألم به حدثا ان هذا هو حكم السماء وعليه الخضوع والرضا..ولم يكن الأمر في حقيقته مثل ذلك او حتى قريبا منه.. كان دائما ما يخشى مغبة الإختيار.. ويخشي من الخطأ.. يحاول ان يحيط نفسه بهالة من القناعة ويتحدث بالمنطق والسند والبرهان ساعيا إلى أن يؤمن غيره بصورته المصنوعة بعناية و دأب.. لم يسمح أبدا لأحد أن يقترب منه وينفذ إلى باطنه وداخله ويسفر عن هشاشته.. لم يرفع يوما الكلفة بينه وبين أي عابر أو قريب.. الألقاب لها قدسيتها عنده والنأي بالذات عن الآخرين سماه إحتراما.. لم يضبط يوما متلبسا بالضحك والتباسط مع الآخرين.. حتى في ملابسه.. البدلة الكاملة صيفا وشتاء.. الحياة في يقينه طقوس ومراسم يمارسها بآليه منضبطة رتيبة.. في صمت دائم لا يبدأك أبدا حديثا وإن بدأته يقصر فيه ولايطيل.. لم نكن نعلم عن حياته أي شئ يذكر وهو كان يعلم عنا كل شئ ونحن نتحدث أمامه ونفصح ونسفر.. كأن الزمان لا يمضي موليا ولا يحرك فيه ساكنا.. هو الجمود الأبدي ورد الفعل الواحد المحسوب المتقن في كل المواقف والإنفعالات.. كنا نشفق عليه كثيرا ونرثي لحاله.. كيف يمكن للمرء أن يقهر مشاعره ويقمع تلقائيته ويقبر مكنونه وباطنه؟.. ما جدوى الحياة في الزمن الساكن والحس الجامد والصمت القاهر.. الكلام واللغة والحديث دليل وجود وبرهان حياة.. إنها أنفاس الروح الخالدة التي نظل نرددها خوفا من صمت وحدة قاتلة..
نظل نتكلم ونتكلم حديث جدوى أو حوار نجوى أو حتى سدى لكننا نصرخ بصوت عال نحن أحياء. ما زلنا أحياء.. ما فداحة الثمن الذي تدفعه أرواحنا إن قهرنا فطرتنا؟. كانت قدريته المفتعلة مضللة رغم ثوبها الزائف البراق.. لم تكن نوائب قدر بقدر ما كانت خيارا بينا بين قبول ورفض.. كانت في حقيقتها العصا المقبوض عليها من منتصفها.. لا هي تقرع ولا هي تردع.. هي رمادية الموقف َوالتوجه.. قال له أحدهم ناصحا إياه مرة : عندما تلقى العملة في الهواء فإنها تسقط على أحد وجهيها.. العملة لا تقف في المنتصف ابدا.. ما كان يفعله في الحقيقة هو التأقلم والتماهي مع وجه العملة الظاهر ومن ثم إقناع ذاته ومن حوله بقدريته المزعومة.. دائما ما كانت مكابرته بمزاعمه البالية طريقا ممهدا بالزيف لقناعاته المصطنعة المطمئنة الساكنة باعماقه..بدا مستسلما لها عاجزا عن التغيير.. هاربا إليها فارا مستكينا إلى زيف منطقه وخطله.. لا أستطيع أن انسى مظهره في قيظ الصيف الحارق وشلالات الماء تتساقط على وجهه وهو يلاحقها لاهثا بمنديل قماشي عتيق.. هل كان يحتاج إلى نصحا من أحد بأن يتخفف قليلا من رداءه وينزع ربطة العنق العريضة الخانقة ولو بعض الشئ؟ ..
دائما ما شعرت أنه كائنا رقيق الحاشية هشا.. رغم كل هذا السياج السامق الذي أحاط ذاته به.. قد تدل على ذلك ملامحه الرقيقة الطفولية ولمعة عينه الناطقة بالدهشة.. كان فيه شيئا إنسانيا طبيعيا يسكن صفحة وجهه بعيدا عن لحيته الناعمة وشاربه المشذب بعناية.. لكنه لم يسمح أو يعطي أحدا فرصة للدنو والإقتراب منه فظلت صورته التي حرص على صناعتها ملتصقة بالأذهان.. وظل جموده الإنساني وتصلبه الوجداني نقشا في الوجدان.. ولكنه كان أيضا دليلا على تعسفنا في الأحكام.. فقد نجح ولو مرة في الإختيار.. وخلدت صورته ممتثلة في الأذهان بما أراد لها وبما سعي وقد نجح في خياره هذا نجاحا غير مسبوق...