- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
محمد قدري حلاوة يكتب : الشاهد
محمد قدري حلاوة يكتب : الشاهد
- 10 يونيو 2021, 4:19:44 ص
- 701
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عندما وضع " عم رزق" يديه تحت رأسه وجذب قطعة الغطاء الممزقة على جسده لم يكن يعلم على الأغلب أنها نومته الأخيرة..
منذ متى ظهر " عم رزق" في المنطقة لا أحد يستطيع الجزم يقينا.. منذ بضعة سنوات على الأرجح.. أما قصته فقد ظلت سرا دفينا أتى به وذهب معه ولا يعلمه أحدا على الإطلاق.. فهو لم يبادل أحدا يوما قولا ولا حديثا.. وظن القوم به بكما.. والحقيقة أنهم لم يهتموا كثيرا لأمره ولا حتى لوجوده ولم يرهقوا تفكيرهم به فهو لا يعدو أن يكون أحد " المشردين ' الهائمين في الطرقات والمفترشين للأرصفة.. ورغم أنه لم يكن يؤذي أحدا فقد خافت منه الأطفال وتجنبوه وبدا على المارة النفور من مظهره الرث..
كان يحمل كل رتوش وتفاصيل المشردين الذين يسميهم القوم" متشردين ".. الملابس الممزقة القذرة.. الوجه الشاحب.. والشعر المرسل بغير عناية.. و اللحية الكثيفة.. والجسد المتسخ...وكان دائم التلويح بيديه بحركات غير مفهومة وكأنه يحارب أقواما غير منظورة من عوالم أخرى.. ويفترش في الليل أرض الميدان الكبير ويغط في نوم عميق لا يبال بما حوله ولا أحد يبال به..
أعتاد بعض أهل الخير من المنطقة أن يمدوه يوميا بالخبز والطعام والماء وكان " عم رزق" يذهب إليهم في مواعيد منتظمة ليحصل على غذاؤه دون أن يحادثهم أو ينبث ببنت شفة..وكان أهل المنطقة يحملون من مشاغل الحياة ما جعلهم غير مهتمين بمعرفة قصته وما وراءه.. فأوجاع الحياة كثيرة لن يفيدهم أن يعرفوا السبب الذي أدى به إلى هذا المآل وقد خبروا النتيجة.. وحمدوا الله كثيرا على نعمة العقل و المأوى.. و أنشغلوا بدنياهم وهام "عم رزق" في ملكوته..
لاحظ عامل المخبز إختفاء "عم رزق" بضعة أيام لكنه نسي الأمر سريعا.. إلى أن سري خبر العثور على جثة مجهولة في موقع بناء أحد الكباري الجديدة.. وبعد تحقيقات السلطات المختصة نشرت الصحف التفاصيل.. حيث ألقت شاحنة قلابة كمية كبيرة من الرمال دون أن تنتبه إلى وجود أحد.. فأنهالت الرمال على " عم رزق" الذي كان حينها ذاهبا في إحدى نوماته العميقة .. بالطبع لم تذكر الصحف إسم " عم رزق" و أكتفت بوصفه "أحد المشردين".. لكنها ذكرت بالطبع أسماء السادة المحققين و ألقابهم وصفاتهم.. و أسفرت التحقيقات " في وفاة المتشرد الذي أعتاد النوم في محل الواقعة عن عدم وجود شبهة جنائية "..
تم إذن إستيفاء أوراق التحقيق.. ولم يتحدث أحد بالطبع عن مسئولية المجتمع عن هذا المشرد المعتاد النوم والحياة منذ سنوات في قارعة الطريق.. و أطمئن الأطفال أخيراً بعد خوف.. وأرتاحت أعين المارة من القذي و الأذى.. و إكتمل بناء الكوبري ووضعت محل موت" عم رزق" لافتة رخامية كشاهد.
ليس بالطبع لللحد.. ولكن كان محفورا عليها بخط عربي حسن متقن " أنه في يوم كذا.. قام السيد المحافظ كذا.. بإفتتاح كوبرى كذا.." ومضت الحياة ووسط ضجيج السيارات وحركة البشر.. و في آتون معركة الحياة نسي القوم" عم رزق " ونسوا سيرته وحكايته.. وناموا مطمئنين آمنين و إرتفع صوت غطيطهم وخفت وتلاشي صوت الضمير..