- ℃ 11 تركيا
- 23 نوفمبر 2024
محمد قدري حلاوه يكتب : اشلاء
محمد قدري حلاوه يكتب : اشلاء
- 18 مايو 2021, 5:43:44 م
- 947
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
( أشلاء)
كان يوما مجهدا ثقيل الوطأة على العقل والبدن والوجدان..أن تقضي ساعات دوامك وسط القصف وصوت صافرات الإنذار ونذير سيارات الإسعاف المزعج..
تحدث هذا.. تبتسم لذاك.. وذهنك شارد تتحسب الخطر.. تنتظر الأنباء السيئة في كل لحظة.. سمعك مشدود نحو المذياع.. وبصرك مشدوه صوب التلفاز..
هل الحياة في ظل الموت ووسط أنفاسه الثقيلة بطولة؟.. شجاعة؟.. سردية صمود؟..
أم حكم الزمان والمكان وإعتياد الحال؟ .. السكون لعبث اللعبة والعملة الملقاة في الهواء.. ملك ؟.. كتابة؟.. حياة؟.. موت؟..
عندما تلقى العملة لأعلى فإنها لاتقف في المنتصف أبدا..
لن يتسنى لأحد أن يلمح لحظات إلتواء وتفسخ أسياخ الحديد المنتصبة..
لن يستطع كائن من كان توثيق لحظة تفجر وتفتت قوالب الطوب و أعمدة وحوائط الأسمنت الصلبة.. هل تمكن تقنية التصوير البطئ من إبراز لحظة عربدة الصاروخ بالهدم والدمار؟
..لن ترى كل ذلك لن تلمحه سوي ركاما وأثرا بعد عين.. وماهو شعور ذلك الكائن السادر في غفوته سالبا لحظات من وسن في ليل حالك بعد نهار من الرعب والخراب؟..
ما التوصيف اللغوي الدقيق لأحاسيسه و إنطباعات قسماته وهذا الصاروخ اللعين يحيله إلى أشلاء؟.. فقط سترى أضواء تلمع في السماء لرشقات الموت القادم..
ثم بعض المسعفين والمارة ينتشلون الجثث والأشلاء من بين الحطام..
الحقيقة أن " أبو وليد" لم يشعر بشئ على الإطلاق .. لم يشغل باله بكل تلك الأسئلة والتعقيدات المنغصة..
شعر فقط بخيط حار لزج قان يسيل على جبهته.. وجد نفسه ينهض ممسكا بيد أطفاله الست وزوجته ويمضي في الطريق الصاعد نحو التل..
لم يفهم الصرخات من حوله والهلع المرتسم على الوجوه الملتفة حول ركام أحد المنازل المنهارة توا.. لمح أحبال الغسيل مازالت تقبض على ملابسه..
مالذي أتى بها وسط هذا الركام؟..هل يكون هو منزلهم هذا الذي سقط؟ إنحني ليلتقط صورة جده التي تهشم زجاجها..
وجد جده يجلس في أحد الأركان تحت شجرة الزيتون الوارفة يضحك بوقار.. قال له " لا عليك يا أبو وليد.. لا ينصلح الزجاج المهشم أبدا"..
عاد الجد يقرأ في الجريدة المنبسطة بين كفيه وهي تتحدث عن الجيوش العربية القادمة لتحرير فلسطين..
زفر الجد زفرة حزن قائلا " الله يرحمك يا عبد القادر _ الحسيني _".." أطمئن يا " أبو وليد".. إنهم قادمون"..
ضحك "أبو وليد" ضحكة خافتة وربت على كتف جده ومضى في طريقه وهو يردد في سره ساخرا "آه لو ظل الجد حيا.. لما قصر في لعنهم بلسانه السليط"..
كان صوت " فيروز" يصدح من فوق التلة " الآن.. الآن.. وليس غدا.. أجراس العودة فلتقرع ".. ثلاثة وسبعون عاما يا جارة القمر والأجراس تقرع..
ولا عودة منظورة.. مزيدا من الشتات والتشريد والتمزق.. يا ملائكية النبرة إنتظرنا كثير وأحترفنا" الحزن والإنتظار.. نرتقب الآتي ولا يأتي تبددت زنابق الوقت"..
لكنه الأمل المبارز لقسوة الواقع والحقيقة... تبدو معركة حمقاء.. خاسرة.. بيد أن الحياة تصبح صنو الموت.. مرادفه.. لو بهت الأمل.. لو خبت جذوته في الصدور..
على بعد أمتارا معدودة كان " درويش" يقف منتصب القامة وحوله جمع غفير... وضع يده على وجهه يضبط عويناته مرددا بصوتاه الرخيم :
"سقط القناع.. عن القناع.. عن القناع..
سقط القناع ..
لا إخوة لك يا أخي،,,لاأصدقاء !..
يا صديقي،,,لا قلاع !..
لا الماء عندك،لا الدواء , لا السماء, ولا الدماء ..
ولا الشراع ولاالأمام ولا الوراء..
حاصر حصارك .. .لا مفرُّ !..
سقطت ذراعك فالتقطها !..
واضرِبْ عدوك..لا مفر ..
وسَقَطْتُ قربك،فالتقطني !..
واضرب عدوك بي،فأنت الآن :
حرٌّ..
حرٌّ..
وحرُّ..
قتلاك .. أو جرحاك فيك ذخيرة !..
فاضرب بها ! اضرب عدوك..لا مفرُّ !..
أشلاؤنا أسماؤنا..أسماؤنا أشلاؤنا..
حاصر حصارك بالجنون !..
وبالجنون !..
وبالجنون !..
ذهب الذين تحبهم،ذهبوا..
فإما أن ( تكون )..
أو ( لا تكون )..
سقط القناع عن القناع..
سقط القناع،..
ولا أحد إلّاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان !.
فاجعل كل متراس بلد !..
لا..لاأحد..
سقط القناع ..
عَرَبٌ أطاعوا رومَهم ..
عرب وباعوا روحهم ..
عرب..وضاعوا
سقط القناع عن القناع..
سقط القناع .."..
وجد نفسه يردد مع الجموع " حاصر حصارك لا مفر..".. عاد إلى ركام المنزل المتهاوي.. إنقض كالمجنون ينبش بين الأشلاء..
تناول ذراعا مبتورا وأخذ يعدو..يشبه ذراعه إلى حد كبير.. هو الآن حر وحر وحر.. جف أخيرا الخيط الحار اللزج القان الساقط على جبهته..