محمد كامل خضري يكتب : الكى ليس الحل !

profile
  • clock 20 يونيو 2021, 8:41:09 ص
  • eye 836
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أطلت الإفرازات من فتحتى منخار الغلام وسالت على فمه...أمه تقول له آمرة (نِف) مع غمزة مؤنبة لإهماله فى العناية بنفسه ثم أمسكت به وساعدته على النف على الأرض الترابية  ثم ردمتها بإزاحة قليل من التراب بمشط قدمها عليها ثم قلبت  له حجر جلبابه لتمحو الآثار الباقية على وجهه...ودائما ما يتفاجأ الغلام بالبرابير وهى على أبواب فمه أثناء إنهماكه فى اللعب  كمفاجأة النوات للإسكندرية كل عام ...

فيأخذ  شهيقا عميقا فتختفى الإفرازات إلى الداخل  ولكن سرعان ماتنزلق ومعها المزيد بفعل الجاذبية وليس هناك مفر من التخلص منها بطريقة أو أخرى عندها يستعمل كم جلبابه المخطط بمسحة أفقية خاطفة فى محوها من على خارطة الوجه  بتلقائية لاتلهيه عن ألعابه  أو عمله فى جمع الطوب الذى يستخدمه لطرد العصافير التى تطير وترسو فى جماعات بالمقاليع  التى يلقمها الكبار  حجرا من الأحجار التى يجمعها ثم يديرون  حبالها  فى الهواء عدة مرات  ثم يفلتون  أحد طرفي الحبل   فيذهب الحجر حيث تجمعت العصافير لتنقر قرون الفول الخضراء بمناقيرها الحادة فتنزعج وتطير ولكنها لاتكف عن المحاولة ولايكف الصبية  عن المقاومة كطفل فلسطينى يلقى بطوب مقلاعه على جحافل الصهاينة المدججين بالسلاح ...

كُم جلبابه المخطط  الذى تراكمت عليه الإفرازات الجافة أصبح مثل قطعة ورقية صلبه تشبه الكرتون المتسخ  حيث  تلاشت خطوط الثوب وألوانه  عند الأكمام !

 أشارت النسوة على أمى بإطعامى زفرا لربما أكون قرفانا "القرف فى الصعيد يعنى عدم أكل الزفر والطبيخ القارف هو الذى يطبخ دون لحم"أو بالكى لأن المخ "ساقط" حتى أشفى من البربرة المستمرة ...فكل نساء قريتنا طبيبات !

 فمخ الغلام  الساقط فى رأسه  يرفع بالكى فى بؤرة الرأس حيث مركز توزيع الشعر هذا هو التشخيص وهذا  هو العلاج  وكأن المخ نجفة مثبتة فى سقف الجمجمة !

أمى وقد جربت أن تطعمنى اللحم منفردا فى صورته المتاحة عندها وهى ديك صغير (يقال له شمرت ) لتعالجنى من القرف  ولكن لم يفلح العلاج  التى إعتقدت أمى أنه لجرعة واحدة !

 نفس الخطأ الذى يقع فيه فقراء اليوم كبسولة واحدة من المضاد الحيوى تكفى للعلاج  ! وللأسف تنازل الصيادلة عن علمهم الذى تعلموه إرضاء للمريض وطلبا لقروشه فى تلك الجرعة التى تسمى "مجموعة إنفلونزا"وحشروا فيها كبسولة مضاد حيوى منتهى الصلاحية أو أوشك على الإنتهاء !

فلا  ديك أمى  أفلح فى إيقاف البرابير  ولامجموعة الإنفلونزا  قادرة على إنهاء البرد ولربما أنهكت المناعة فى الجسم كديك أمى الذى جعلنى أتمرد على الطبيخ القارف لعدة أيام 

  وبرز الكى كحل حاسم لما أنا فيه  بعد أن رجحت كفة التشخيص الثانى "سقوط المخ"

وحاولت أمى إقناعى بالحل ...وتناست أن برد الشتاء القارص ومعيشة الفلاحين فى أكواخ البوص  فى الهواء الطلق والصحو مبكرا من قبل آذان الفجر  ونار المدفأة الطينية المنبعث من عيدان حطب القطن فنصف الوجه منكمش من البرد ونصفه محمر من شدة الدف حسب موقعك من الدفاية !  

كل هذه الأمور وكل هذا الأشياء إستفزت غدد البدن  فزادت إفرازاتها وسالت البرابير ولكن أمى أصرت على التشخيص وعلى العلاج !

  وكان  صباح يوم زرنا فيه زوجة العم ...كان المسمار المحمى يلمع فى النار ...مسمار فى طول القدم له بصمة رأس  كبصمة الأصبع الكبير فى رجل أبى ...هذا المسمار الأسود الذى  يستعمل فى نجارة  الأخشاب السميكة كالتى فى الساقية وفى بوابة بيت جدى البعيد الذى تركناه وجعلناه مخزنا للتبن وعشنا فى الحقول فى عشش البوص حتى نحرس الحقول من اللصوص...

رأس المسمار الأسود أصبحت كتلة شفافة من الجمر من شدة السخونة والمسمار المغروس فى النار  ليس فيه خارجها إلا مقبضه الخشبى  !

  رأت أمى فى عيناى نوايا الهرب بعد أن رأيت فى عينيها ملامح المؤامرة ! 

أمسكتنى بقوة بعد أن كانت تؤانسنى   بكلمات لم أفهم منها شيئا ولادخل رأسى منها شئ...مش هتحس ...فلان إتكوى وخف ....حأدبح لك ديك ...وأنا لحظتها أصبحت الرعب ذاته متجسدا...كتفتنى وإحتضنتنى جالسا على الأرض...وجهت وجهى ناحيتها وظهرى ناحية إمرأة العم وضغطت على جسدى الصغير بكل ماأوتيت من قوة حتى كدت أختنق وأمسكت رأسى فى اللحظة الحاسمة ولم أسمع سوى ...تشششش... وشممت رائحة الشياط ورائحة اللحم المحترق !

وبركان  فى رأسى يلقى حممه داخلى...وأنعدمت الرؤيا أمامى و عيناى أصبحتا شاشة عرض لما يحدث داخل رأسى من براكين ولاأدرى كم مضى من الوقت منذ بداية الحدث حتى نهايته !

    وبعدما إستفقت قليلا  قالت لى أمى أن المسمار الأول إنزلق عن موضعه فى  بؤرة الرأس ...فدعمناه بثانى بجواره  ! 

         كانت أوراق الخروع هى اللبخة على الكى وفوقها طاقية و تحتهما مسحات (كرفة)  بريشة  من الزيت الذى قلى فيه الثوم ...ومرت أسابيع وشفى الكى وبقيت آثاره مساحةصلعاء ومع الشفاء عادت البرابير إلى وجهى وآثارها من جديد على كمى....

 وأقترحت إمرأة العم مسمارا ثالثا !

وأقترحت النسوة الكى على القفا !

قلت لهم على جثتى !

 ومرت تلك الأيام وتعلمنا وإتكوينا  فى الدنيا كيات كثيرة كان أهونها كى إمرأة العم... تذكرت كل مامضى وأنا واقف  بالأمس أمام  مرآة الحوض...أغسل وجهى وأتخلص من إفرازات أنفى و أندب شعرى الذى تساقط بفعل الزمن كاشفا مؤخرة رأسى الصلعاء ...والتى ليس بها سوى ندبتان  من أثر الكى القديم...الحلول لمشاكلنا ليست بالكى فالكى ليس أفضل الحلول...الكى حل يائس لمشكلة قد تكون بسيطة ولكن ضيق الأفق وإتساع الجهل هما اللذان يقودا إليه لاتنكوى ولاتسمح لأحد أن يكويك ويعلم عليك ويترك فيك أثرا صديقا كان أم عدو  !

التعليقات (0)