- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
محمد كامل خضري يكتب : شربة ملح
محمد كامل خضري يكتب : شربة ملح
- 22 يونيو 2021, 3:50:27 ص
- 1081
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
دخلت كلية الصيدلة وأنا لا أعرف من الدواء غير حبوب الأسبرين "ريفو أو أسكين " وكانت العشرة أقراص بعشر مليمات أو قرش صاغ...وفى طفولتى المبكرة عندما كنت أكح أذهب للصحة المدرسية فيصرفون لى مزيج الكحة وأحيانا يشفقون على وعلى هزالى و عند توافره فى الجرادل وقلة الرواد فى هذا اليوم يصرفون لى مزيج راوند وصودا كفاتح للشهية بدلا من التخلص منه وخاصة أنهم يجهزونه يوم بيوم وكل مزيج من هذه الأمزجة ذو طعم فظيع كفيل بأن يخرج أمعاءك الغليظة من فمك من شدة مرارته وبعض أقراص سلفا ديازين وفى حالة الإسهال أقراص سلفا جوانيدين أو سلفا ديميدين وأقراص إنتيروفيوفورم هذا مبلغ علمى من الطب العلمى أما الطب الموازى أو الطب الشعبى فكان لكل داء دواء...الدمامل والبثور لبخة العجينة بالسكر الجروح البسيطة نبول عليها لإيقاف النزف أونكبسها برماد الفرن البلدى الموجودة فى كل بيت ريفى والجروح العميقة تكبس بالبن وإلتهابات العين المصحوب بورم لها روث الحمير !
تستيقظ مبكرا وتتلقف "الصون كما يسميه أهل الصعيد" الدافئ الطازج نأتى به من الزريبة أو الطرقات حيث تمشى الحمير وتلفه فى منديل وتربط عينك المصابة به حتى المساء !
أما العين الحمراء فلها لبن المعيز من البز إلى العين مباشرة تأخذنى أمى على حجرها ووجهى للسماء وتأتى بالمعزة الحلوب فوقى وترفع رجلها وتضخ الحليب فى العين وأحمد الله أنى لم أتعرض للرفص وهذا وارد وإلا أصبحت الآن مؤذنا فى مسجد أو قارئا فى الجبانات أو بائعا للمناديل فى الإشارات...
الكحة كان علاجها مغلى البلح والحلبة ودعك الصدر والضهر بالزيت ولفه بورق الجورنال أما إذا تغير ريح البطن أو إشتكى الطفل من الديدان فله مغلى قشر الرمان قبل النوم وفى الصباح وماأدراكم ماالصباح تكون شربة الديك جاهزة شربة الملح الإنجليزى الشهيرة أيامها باكو ورقى مرسوم عليه ديك ثمنها قرش واحد سلفات الماغنسيوم إسمها العلمى كما عرفناه بعد ذلك...يجهز كيس الشربة بالإذابة فى الماء...أول ملح معدنى له رائحة رائحة من روائح يوم القيامة التى يشمها كبار العصاة...مشروب من مشروبات أهل النار ...أقدم رجل وأؤخر رجل تزغدنى أمى ..فأتقدم ..أشم الرائحة فأتراجع ...فتقرصنى فأقول لها إنتظرى طيب خليه يشرب هو الأول مشيرا لأخى الواقف بجانبى فيرفض...إنت الكبير إنت الأول ومابين خطوة للأمام وخطوة للخلف كجندى بائس أتوا به من الريف وحشدوه من أجل معركة لايدرى عنها شيئا أو كمغامر مبتدئ مطلوب منه القفز من الطائرة بالمظلة أو كطفل متدرب يتعلم السباحة فى أيامه الأولى ...وبين توصيات أمى وتحفيزها المتكرر بأن أتجرعها مرة واحدة....صدقنى لو فكرت أن أتجرعها على مراحل لما تعديت الرشفة الأولى وبعدها سأفر مهما كان الثمن أغمضت عيناى وسددت أنفى وسددت الكوب إلى فمى فى مشهد رأيته بعدها فى الأفلام لمن يحتسون كأس خمر...يرتشفه البطل فى جرعة واحدة وبسرعة كأنه يغافل ضميره ثم ناولتنى أمى كوب ماء ثم ملعقة من السكر فى سرعة لاتدانيها سوى سرعة سباقات التتابع...ولم أزل كاتما أنفى مخرجا الزفير من فمى...فلو شممت رائحة الشربة التى فى جوفى لأنقلبت معدتى رأسا على عقب ...
البرنامج فى يوم الشربة...لاطعام...هو الماء ولاشئ غير الماء...إشرب إشرب إشرب ثم أذهب للحمام لتهُر ماشربته ومنعته الشربة من الإمتصاص فبقى داخل الأمعاء وغالبا ما تفاجأ بأنك ترغب فى الدخول للحمام ولو لم تسرع للوثت نفسك ووسخت ثيابك وغالبا يكون هذا اليوم...إحتفاليا حاجة كدة زى الجلابية بارتى اللى بيعملوها للسياح فى الفنادق والبواخر السياحية علشان يبيعوا لهم الجلاليب إحنا لم نكن نلبس فى هذا اليوم غير الجلابية لاشئ فوقها ولاحاجة تحتها لسهولة الحركة وينقضى اليوم مابين شرب الماء ودخول الحمام والمشى ...هذه الطقوس الأساسية كأنها عملية غسيل للأمعاء وغسيل للكلى وعندما يصبح البول رائقا صافيا صفو الماء والأمعاء نظيفة نظافة المصارين قبل عمل المنبار وأصبحت لاتطرد شيئا غير الماء...مسموح لك بشرب ماء الفول النابت "الفول أبو زلومة كما يسميه الظرفاء"عند آذان العصر ولو حاولت أن تخرق حظر الطعام فأنت معرض لتكرار تناول الشربة الجمعة القادمة فأحترم نفسك أحسن لك !
وتخرجت ودرست أن سلفات الماغنسيوم ملين قوى بل ومن أشد الملينات لايماثله إلا الحنضل ولكن عند ممارسة المهنة لم أجده مطروحا فى الأسواق قرأت عنه فقط فى مذكرات سعد زغلول باشا وأنه كان جزءا من برنامجه العلاجى وبرضو مفيش فايدة ومات سعد !
ومنذ عام ذهبت لأحد شركات الكيماويات الدوائية وسألت عنه فضولا فقالوا لى إنه موجود فأشتريت نصف كيلو وهو أصغر عبوة وثمنها زهيد وذهبت بها للبيت وأخذت منه ملعقة وقلبتها فى الماء وقربتها من أنفى أجاركم الله بعدها تخلصت من العبوة كلها...
كم عانينا نحن أبناء هذا الجيل وخاصة فى الصعيد...الآن بابا صباعى بيوجعنى إتلسعت من كباية الشاى يللا نروح للدكتور...ياشباب إسترجلوا شوية يرحمكم الله*