- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
معصوم مرزوق يكتب : الفتنة في مجلس اللوردات
معصوم مرزوق يكتب : الفتنة في مجلس اللوردات
- 14 ديسمبر 2021, 8:45:29 م
- 473
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
" الفتنة نائمة ، لعن الله من أيقظها " .. حكمة سارت بين السنين ، وأثبت التاريخ صحتها في العديد من الوقائع الدموية ، ومع ذلك فأن البعض في مجلس اللوردات البريطاني كان لا يبدو مقتنعاً بهذه الحكمة ، فهو لم يكتف فقط بإيقاظ الفتنة ، وإنما أصر علي أن تدخل قاعة مجلس اللوردات الموقر ..
بعد شد وجذب سياسي وقانوني ، تمكن النائب الهولندي المتعصب " جيرت فيلدرز " من عرض فيلمه " فتنة " في إحدي قاعات مجلس اللوردات البريطاني ، وذلك بناء علي دعوة عضوين فقط من المجلس وهما اللورد الموقر / بيرسون ، والبارونة الموقرة / كوكس ..
الفيلم مدته 15 دقيقة ، يعرض فيها أجزاء من القرآن ، مصحوبة ببعض لقطات من هجمات الحادي عشر من سبتمبر ، والإعتداءات الإرهابية في كل من مدريد ولندن ، ويؤكد النائب الهولندي أن " الديمقراطية " و " الإسلام " غير متوافقين ، وأن الإسلام ديانة شمولية سلطوية ، كما قارن بين " القرآن " وكتاب " كفاحي " لهتلر ، زاعماً أنه دليل علي فاشية وإرهابية الدين الإسلامي ..
وكانت محاولة سابقة لعرض الفيلم في المجلس قد باءت بالفشل من قبل ، وصدر أمر بمنع النائب الهولندي من دخول الأراضي البريطانية ، ولكنه حصل علي حكم من المحاكم البريطانية لصالحه، وبالتالي لم يعد هناك عائق قانوني لدخوله إلي بريطانيا عام 2010.
ومن المعروف أن النائب الهولندي المتطرف يرأس حزب الحرية في هولندا ، وهو الحزب الذي حقق إنتصارات ملموسة في الإنتخابات المحلية ٱنذاك ، وكان التخوف أنه إذا استمر صعوده فقد يصبح هذا النائب رئيساً لوزراء هولندا قريبا ، علماً بأن عدد المسلمين في هولندا يزيد علي مليون نسمة .
وقد قالت البارونة الموقرة أن زيارة النائب الهولندي وعرض فيلمه في مجلس اللوردات يعد إنتصاراً لحرية التعبير ، بينما أعرب متحدث بإسم الحكومة البريطانية عن الإسف لقرار عضوي مجلس اللوردات عرض الفيلم في المجلس .
ومثلما الحال في أزمة الرسوم المسيئة في الدانمارك ، دار الجدل الحاد حول مفهوم حرية التعبير ، وانطلقت عقيرة النائب الهولندي ومن لف لفه توجه السهام ليس فقط ضد المسلمين ، وإنما ضد الإسلام كدين ، بل وصرح نفس النائب بأنه لو فاز حزبه في الإنتخابات القادمة فأنه سيسعي إلي طرد المسلمين من أوروبا ، محذراً من خطورتهم .
من الصحيح أن العائق القانوني قد أزيح أمام ذلك النائب المتعصب للدخول إلي بريطانيا ، ولكن ألا توجد معايير أخلاقية أو ضوابط سياسية لمجلس اللوردات البريطاني ؟ .. وأسارع بالتحفظ بأن أثنين فقط من أعضاء هذا المجلس هما اللذين تقدما بالدعوة ، ووحدهما فقط من تمتعا بمشاهدة الفيلم من بين الأعضاء .. ولكن ذلك لا يغير من الأمر شيئاً ، فلقد تمكن شخص موتور من فرض رؤيته الخاصة التي تسيئ إلي حوالي بليون ونصف مسلم في العالم ، ليس هذا فحسب ، بل أن رسالته تؤدي حتماً إلي مزيد من الحض علي الكراهية والتعصب ضد المسلمين في أوروبا ، بما في ذلك من ردود أفعال معاكسة تزيد من حدة الإستقطاب الديني في العالم ..
لا شك في أن حق النائب الهولندي في حرية التعبير مكفول ، ولا ننازعه حقه في إبداء ما شاء من آراء ، وهذه بالمناسبة تعاليم وسلوكيات الدين الإسلامي " لهم دينهم ولي دين " ، ومهما كانت الإفتراءات والإساءات التي تتضمنها هذه الآراء ، حيث لا يكون الرد الصحيح عليها إلا بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولكن المشكلة هي مأسسة هذا الرأي وهذه الإساءات ، أي وضعها في إطار مؤسسة يفترض فيها الرشاد والتعقل ، حيث توازن بين حمأة الآراء الخاصة وتطرفها وبين الإطار الأخلاقي والسياسي العام الذي يحتويها أو يؤدي إليه .
كم من مجنون مريض بالهوس يصرخ بالمعقول وغير المعقول ، وهذا مكانه الطبيعي مصحات العلاج النفسي وليس مجلس اللوردات البريطاني الموقر أو برلمانات الشعوب ، ولا ننسي أن مجنوناً آخر " أدولف هتلر " تسلل من باب حرية التعبير والديمقراطية كي يقود ألمانيا والعالم إلي جحيم الحرب العالمية الثانية ، وفي ظني أن المشكلة لم تبدأ عندما تنازل تشامبرلين رئيس وزراء بريطانيا في ميونيخ للطاغية الألماني المجنون ، وإنما بدأت عندما أتيح لهتلر أن يتسلق بأفكاره العنصرية إلي قمة هرم السلطة في ألمانيا ..
وهناك تشابه كبير بين ما يذكره الآن النائب الهولندي عن نيته طرد المسلمين من أوروبا ، وما كان يذكره هتلر عن اليهود .
كم من الجرائم صارت ترتكب تحت عباءة " حرية التعبير " ، إلا أن جريمة " الفتنة " من أشد هذه الجرائم ، وتتطلب موقفاً حاسماً من المشرعين الأوروبيين قبل فوات الأوان ، ولعلنا نذكر الموقف الأوروبي من " يورج هايدر " السياسي النمساوي حين اتضح أن لدي حزبه فرصة كبيرة عام 1999 لتولي الحكم ، حيث هدد الإتحاد الأوروبي بمقاطعة النمسا علي خلفية أن السياسي المذكور لديه مواقف متطرفة معادية للسامية .. لقد مات الرجل بعد ذلك في حادثة سيارة يشتبه أن الموساد الإسرائيلي كان متورطاً فيها ، وهذا لا يهمنا في هذا المقام ، وأنما ما يهمني هو إزدواجية المعايير فيما يتعلق بحرية التعبير ، فرغم أن تصريحات " هايدر " النمساوي لم تكن تؤدي إلي فتنة بأي حال ، فأن أوروبا كلها وقفت معارضة له ، في حين أن تصريحات وتصرفات " فليدرز " الهولندي تجد ترحيباً ، بل وصدراً حنوناً من البارونة الموقرة " كوكس " التي تري فيها " إنتصاراً لحرية التعبير " ..
لقد علمني أبي منذ نعومة أظافري " أنني حر فيما لا يضر " ، وإذا كانت " الفتنة " أشد من القتل ، فأن " فتنة " فيلدرز ليس فقط ضارة ، وإنما كانت جريمة متكاملة الأركان ، وعلي أوروبا والعالم أن ينتبهوا لتلك الأصابع المشبوهة التي تسيئ استخدام الحرية للإضرار باستقرار وسلام العالم كله ، وأظن أن "اللعنة " فقط ليست كافية لمن يشعل الفتنة …