- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
ناصر جابي يكتب: بعض النخب التونسية والجزائر
ناصر جابي يكتب: بعض النخب التونسية والجزائر
- 5 يونيو 2023, 4:07:50 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ما زلت أتذكر كيف شاركتُ في نهاية الثمانينيات مع مجموعة من الأصدقاء والرفاق، بعد السنة الموالية لأحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988، في تكوين الفرع الجزائري لمنظمة أمنيستي. ونحن نعيش أجواء تفاؤل كبير فكرت بسذاجة كبيرة في تلك الفترة – قد تفهم الآن وكأنها نوع من أنواع الوصاية، لا أعرف – أننا يمكن ان نجعلها تحت تصرف إخواننا في تونس الذين كانوا يعيشون الشهور الأولى لعملية الغلق التي انطلق فيها بن علي، بعد الفسحة القصيرة التي صادفت عملية إبعاد بورقيبة في نهاية 87.
تكوين فرع أمنيستي الجزائري، الذي حضره أصدقاء من تونس، كان لهم السبق في المنطقة المغاربية في الترويج لهذه المنظمة الحقوقية، بعد تكوين الفرع التونسي، دون أي شعور آخر إلا التضامن بين الشعوب والاستفادة من هذه الخبرة التي سبقنا فيها الإخوة في تونس الذين زاد اهتمامهم بما يحصل في الجزائر، كما عبرت عنه زيارة المناضلة مية الجريبي للجزائر خلال تلك الفترة.
سذاجتي وتفاؤلي المبالغ فيه في تلك الفترة التي جعلتني أفكر بأن الحاجة لأمنيستي في الجزائر لن تكون كبيرة جراء «الانفتاح الديموقراطي « الذي كنا نعيش أيامه الأولى في الجزائر، بعد أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 1988، بما واكبها من اعتراف بالتعددية الحزبية والإعلامية وحق التظاهر في الشارع الذي كنا ممنوعين منه منذ الاستقلال، وأن التوانسة قد يكونون في حاجة كذلك الى هذا الفرع والى كل أشكال التضامن معهم من قبل إخوانهم في الجزائر، كما كان الحال على الدوام بين الشعبين، عبر تاريخهم المشترك الطويل.
بورقيبة عرف بحنكته كيف يسيّر العلاقات بين البلدين منذ فترة ما قبل الاستقلال وبعدها رغم الهزات التي شهدتها في بعض محطاتها
واكتشفنا بسرعة أن هذا التفاؤل لم يكن في محله بعد استفحال العنف بكل أنواعه في الجزائر، ونحن، في الجزائر، الذين كنا في حاجة الى أكثر من فرع لأمنيتسي ولتضامن إخواننا في تونس وغير تونس.
تذكرت كل هذا هذه الأيام، بما فيها اللقاء مع الراحلة مية الجريبي وأنا استمع الى بعض المواقف النقدية التي بدأت بعض وجوه النخبة التونسية في التعبير عنها إزاء الجزائر، في علاقاتها ببلدهم بحجة التدخل في الشؤون الداخلية لتونس بل وفرض نوع من «الوصاية «عليها، نتيجة التصريحات غير الموفقة التي عبر عنها مسؤولون جزائريون ودبلوماسيون كبار في المدة الأخيرة. زيادة على بعض ما راج داخل وسائل الإعلام المحلية التي خانها حسن التعبير والتصرف من نخب متعجرفة.
هفوات أعتقد جازما أن من حق إخواننا في تونس، ونحن هنا في الجزائر، رفضها وعدم القبول بها، حفاظا على العلاقات بين الشعبين، دون أن يصل الأمر الى استغلالها في الصراعات السياسية الداخلية في تونس، للزج بالعلاقة مع الجزائر داخلها، كما هو حاصل من بعض الأطراف في تونس هذه الأيام للأسف، على منوال ما كان يحصل في فترة أقدم عندما كانت الجزائر الرسمية متهمة بدعم الشيخ الغنوشي وتياره السياسي الإخواني لتجد نفسها في المدة الأخيرة متهمة بدعم قيس سعيّد ونظامه الشعبوي، عكس الموقف الجزائري الدائم الذي يركز في علاقاته بتونس على استقرار البلد وعدم التدخل في شأنه الداخلي كقضية مركزية بالنسبة للجزائر، تهم أمنها الوطني بالدرجة الأولى، في وقت ساء فيه الوضع على كل حدودها تقريبا.
موقف رسمي جزائري من تونس هو الذي يفسر تاريخيا الإشكالات الكثيرة العلنية والمستترة التي دخلتها الجزائر مع نظام القذافي الذي كانت له نوايا عدوانية إزاء تونس ونظام بورقيبة تحديدا، كما عبر عنه بمناسبة أحداث قفصة في يناير/كانون الثاني على سبيل المثال التي حاول توريط الجزائر فيها 1980.
بورقيبة عرف بحنكته كيف يسيّر العلاقات بين البلدين، منذ فترة ما قبل الاستقلال وبعدها، رغم الهزات التي شهدتها في بعض محطاتها، ليسود منطق التضامن بين الشعبين على ما عداها من اعتبارات حتى وهو يتعرض الى ضغوط فرنسية رهيبة، حين كان الجيش الفرنسي ما زال حاضرا في تونس في وقت كانت تستقبل فيه جيش التحرير الجزائري على أراضيها، أو هو يحل إشكالات الحدود الموروثة عن الاستعمار بعد الاستقلال، رأت بعض النخب التونسية أنها لم تنصف البلد.
وشهدت العلاقات الجزائرية التونسية فترة طويلة من الاستقرار في عهد الرئيس بن علي بعقليته الأمنية، رغم ما كان سائدا من فوضى أمنية وسياسية في الجزائر. لم تغلق فيها تونس حدودها لتتحول الى منفذ رئيسي ووحيد أمام الجزائريين، بعد غلق كل المنافذ الحدودية أمامهم، بما فيها الجوية، نتيجة الحصار الجوي الذي فرض على البلد.
لم يكن نظام بوتفليقة مؤيدا بالطبع للثورة التي انطلقت في 2011 لتغيير نظام بن علي ووصول منصف المرزوقي على رأس الدولة الذي تخوفت الجزائر من علاقاته السياسية والذاتية المتينة مع النظام المغربي. محطة حاول تسييرها الطرف الجزائري بالانفتاح أكثر على الغنوشي الذي أقام في الجزائر لفترة، لتستقر الأمور خلال فترة البورقيبي قايد السبسي، رغم حالة الاضطراب السياسي وتدهور الوضع الاقتصادي في تونس.
تونس التي تعامل معها المواطن الجزائري في الغالب الأعم «كمركب سياحي» كبير، يتجه نحوها صيفا لقضاء عطلة الصيف ونهاية السنة بالنسبة لسكان الشرق الجزائري، من حديثي النعمة، أنصاف المحافظين الذين يفضلون رؤية نسائهم وبناتهم بلباس محتشم في مسابح الفنادق التونسية صيفا، تاركين الفصول الأخرى ونهاية عطلة الأسبوع لصديقاتهم، للتمتع معهن في تونس القريبة. وهو ما جعل النظام الجزائري لا يتخوف من هذا الاحتكاك الواسع للجزائريين – ملايين السياح سنويا – مع الحالة الثورية التونسية التي بقت غير معدية بالنسبة للجارة الجزائر. عكس ما أحدثته من تأثير في ليبيا ومصر.
إذا استثنيا الاستعمال التقليدي والمعروف للحدود البرية الذي تعود المعارضون الجزائريون على التوجه نحوها كممر هروب نحو أوروبا على غرار ما قامت به أميرة بوراوي، ابنة عنابة الحدودية في المدة الأخيرة، بكل التبعات السياسية والدبلوماسية لهروبها، أو كما قام به العقيد الطاهر زبيري بعد فشل انقلابه ضد بومدين في ستينيات القرن الماضي، أو المؤرخ محمد حربي الهارب من سجن بومدين، تماما كما حصل بالنسبة للمعارضة التونسية بكل اطيافها السياسية في أكثر من مرة. معارضة وجدت في الجزائر ملجأ لها كما عاشها أبناء جيلي في الجامعة – منذ منتصف السبعينيات – عند وصول عشرات الوجوه من الحركة الطلابية التونسية الفارين من بطش بورقيبة. أو كما حصل مع طلبة المغرب من مناضلي اليسار المغربي (حركة الى الأمام) الذين التقوا في نفس الفترة تقريبا مع طلبة لبنان الفارين من جحيم الحرب الأهلية في الجامعة الجزائرية خلال تلك الحقبة، وسرعان ما غادروها نحو باريس لنكون امام إحدى أجمل صور التضامن التي احتضنتها الجزائر عندما كانت ما زالت تعيش على نفحات ثورتها