- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
نبيل البكيري يكتب: ليست جولة انتخابية في تركيا وحسب
نبيل البكيري يكتب: ليست جولة انتخابية في تركيا وحسب
- 8 مايو 2023, 4:29:59 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ليس مبالغة القول إن الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية، المقرّر إجراؤها في 14 مايو/ أيار الجاري، تُعد من أهم الانتخابات في تاريخ تركيا الحديثة، لما قد يترتب على نتائجها من تحوّلات واستحقاقات عدة سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً أيضاً، كالتي صعد من خلالها حزب العدالة والتنمية (الحاكم) إلى قيادة تركيا منذ عشرين عاماً، فالانتخابات الراهنة تأتي و"العدالة والتنمية" متربع على حكم تركيا منذ عقدين، وحقق تحولاتٍ كثيرة في الواقع التركي سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ربما لا يعيها جيل ما بعد صعود "العدالة والتنمية" إلى الحكم جيداً؛ كونه لم يعاصر تركيا ما قبل حكم هذا الحزب، وكيف كان وضعها ضمن قائمة الدول الفاشلة.
ستشكّل هذه الانتخابات بنتائجها علامة فارقة في التاريخ التركي الراهن، وستعكس إلى أي مدى أصبح الشعب التركي أكثر قدرة على وعي التحوّلات التي جرت وتجري له على مدى عقدين، وكيف يمكن أن يتعاطى معها وما هي أولوياته التي ستفصح عنها نتائج هذه الانتخابات المفصلية والحاسمة، حيث لأول مرة في تاريخ تركيا تجتمع أحزاب معارضة من مختلف التوجهات، لا هدف لها سوى إسقاط زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم وصانع تحولات تركيا الحديثة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان.
كثيرون في حالة ترقّب كبير لنتائج هذه الانتخابات داخلياً وخارجياً، بحكم المكانة التي باتت تحتلها تركيا في المشهد الدولي الراهن، دولة محورية في كثير من قضايا العالم والمنطقة، بفضل القفزات الكبيرة التي حققتها تركيا اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً تحت قيادة حزب العدالة والتنمية على مدى عقدين.
قفز حزب العدالة والتنمية بالاقتصاد التركي من دولة هامشية اقتصادياً إلى مصافّ الدول الكبرى المتربعة على عرش الاقتصاديات العشرين الكبرى
في المقابل، ستكون هذه الانتخابات بالنسبة لحزب العدالة والتنمية (الحاكم) بمثابة استفتاء شعبي عن رضا الأتراك أو عدم رضاهم عما حقّقه الحزب طوال فترة حكمه تركيا التي نقلها من دولة هامشية اقتصادياً إلى ضمن دول الاقتصاديات العشرين الأكبر في العالم، رغم الأوضاع الاقتصادية الراهنة جرّاء حالة التضخّم التي تعاني منها القيمة الشرائية لليرة التركية بفعل السياسات المالية لحزب العدالة والتنمية جرّاء تخفيض نسبة فوائد الودائع في البنوك التركية، عدا عن مسألة البطالة التي تصل نسبتها، بحسب معهد الإحصاء التركي، تورك سات 10,4% عام 2023، بعد تراجعها من 12% عن العامين السابقين. واقتصادياً، قفز حزب العدالة والتنمية، منذ صعوده إلى الحكم عام 2002، بالاقتصاد التركي من دولة هامشية اقتصادياً إلى مصافّ الدول الكبرى المتربعة على عرش الاقتصاديات العشرين الكبرى في العالم، بمضاعفة حجم الصادرات من 86 مليار دولار عام 2002 إلى 496 مليار دولار عام 2021، وتسديد كل ديون تركيا الخارجية، وتحقيق نسبة نمو اقتصادي بحدود 7,3%، وتحقيق طفرة اقتصادية كبيرة في مختلف المجالات الخدمية والصحية والتعليمية والسياحية والعسكرية أيضاً.
وبعيداً عن العامل الاقتصادي الذي سيكون ذا تأثير كبير في نتائج هذه الانتخابات، باعتبار الاقتصاد هاجس الأتراك الدائم، كما هو أيضا لعبة حزب العدالة والتنمية واستراتيجيته الحاسمة في إدارة تركيا منذ صعوده، وحقّق فيه نجاحاً كبيراً، فإنه ما لا يخفى على مراقبين كثيرين حالة الصراع غير المعلنة التي تدور رحاها بين رؤيتين وفكرتين نقيضتين، تركيا الإسلامية المحافظة المتموضعة شرقاً بعلمانيتها المعتدلة وتركيا الكمالية المتجهة غرباً بعلمانيّتها المتطرّفة، فلا يزال هذا الصراع قائماً، وإن حاول حزب الشعب الجمهوري (الكمالي) إخفاء كثير من رؤاه وسياساته وأهدافه تحت لافتات وسياساتٍ سعى رئيسه المرشّح لانتخابات الرئاسة، كمال كلجدار أوغلو، إلى اتخاذها لتجاوز الصورة الذهنية السوداء للحزب لدى قطاع كبير من الأتراك، وخصوصا المحافظين، منذ تأسيس الحزب على يد الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك في عام 1923. فقد سعى كمال كلجدار أوغلو منذ صعوده إلى قيادة هذا الحزب، منذ عام 2010، بعد تنازل رئيس الحزب حينها، دينيز بيكال، لصالح نائبه كلجدار أوغلو الذي سعى إلى اتخاذ عدة خطوات هادفة إلى تحسين صورة حزبه الذي لا يتمتع بعلاقة جيدة في الأوساط التركية المحافظة، فقد تبنّى كلجدار أوغلو قانون حماية حماية الحجاب، ودفع به إلى البرلمان للمصادقة عليه، كما تبنّى سابقاً في انتخابات 2014 الرئاسية مرشّحاً رئاسياً للحزب ذا خلفية محافظة، وهو أكمل الدين إحسان أوغلو. ومع ذلك لا تزال كثير من مفردات الصراع القديم وحقائقه تظهر بين حين وآخر هنا أو هناك في تصريحات بعض قياداته وخصومهم.
لا يتعدّى الصراع اليوم مجرد خلافٍ في وجهات النظر السياسية والاقتصادية وإنما ينفذ إلى عمق جذور الصراع
ومن هذه التصريحات أخيرا ما قاله عضو البرلمان عن حزب الشعب الجمهوري، أزتوك يلماز، في لقاء تلفزيوني متحدّثاً بازدراء تجاه اللغة العربية، قائلاً، لماذا لا نرفع الأذان باللغة التركية؟ ولماذا لا يُقرأ القرآن باللغة التركية أيضاً؟ وهو شعور يستبطن رغبة بالعودة إلى قرار الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، رفع الأذان بالتركية، والذي ألغي في خمسينيات القرن الماضي، بعد أول انتخابات ديمقراطية في تركيا، فاز بها الحزب الديمقراطي بقيادة الزعيم التركي عدنان مندريس، وعلى إثر هذا القرار حكم عليه بالإعدام شنقاً.
وتظهر مثل هذه التصريحات أيضاً لدى حتى قيادات في حزب العدالة والتنمية، مثل وزير العدل بكير بوزداغ، الذي قال إن الانتخابات التركية ستكون بين من سيسجدون سجدة الشكر ومن سيحتسون الشمبانيا حتى الفجر. ويأتي مثل هذا التصريح مؤشّراً دقيقاً على عمق أزمة المعركة السياسية الراهنة بين تيارين متناقضين كلّ التناقض، تيار يرى تركيا إسلامية محافظة وآخر يراها غربية الهوى والهوية. وبالتالي، لا يتعدّى الصراع اليوم مجرد خلافٍ في وجهات النظر السياسية والاقتصادية وإنما ينفذ إلى عمق جذور الصراع بين الفكرتين المتصارعتين على امتداد تاريخ الدولة التركية الحديثة منذ تأسيسها على يد مصطفى كمال أتاتورك وحتى هذه اللحظة، فتيار عريض يرى أن تركيا دولة إسلامية محافظة ذات تاريخ عريق شكّلته بفعل الإسلام، وتيار آخر هو الذي ألغى فكرة الخلافة والدولة العثمانية، وأسس لتركيا العلمانية الأتاتوركية وصاغ مواد دستورية غير قابلة للتعديل، تنصّ على هوية تركيا العلمانية الأتاتوركية، ولا يزال يمثله ويقوده حزب الشعب الجمهوري. ولا يزال تاريخ بهذا الصراع المحتدم بين رؤيتين وفكرتين نقيضتين حاضراً، وإن اتخذ أشكالاً وصوراً جديدة، فمن صور هذا الصراع اليوم ما يتعلق بقضية اللاجئين في تركيا، فتركيا مليئة باللاجئين من مختلف الأجناس، إيرانيين وأفغانا وأوكرانيين وعربا وغيرهم. ولا ترى المعارضة التي يتزعمها حزب الشعب الجمهوري في كل هؤلاء خطراً على تركيا وثقلاً عليها سوى اللاجئين العرب، والسوريين تحديداً، في دلالة واضحة على موقف هذا الحزب، ليس من العرب بأنهم عرب فحسب، وإنما لكونهم مسلمين بالأساس، ولغتهم غير مقبولة، بحسب هذه الرؤية العنصرية للعلمانيين الأتراك تجاه العرب، والتي تستبطن فكرة أن العرب وحدهم من يمثلون الإسلام، وهذه رؤيةٌ نقيضة تماماً لرؤية حزب العدالة والتنمية وحلفائه في تحالف الجمهور.
يتمتع حزب العدالة والتنمية برصيد انتخابي مشجّع منذ أول انتخابات خاضها بعد تأسيسه مباشرةً في 2002
قد يقول قائلون إن هذا التوجه العنصري العلماني المتطرّف لتحالف الجمهور، غير صحيح، وأنه يتشكل من خليط من العلمانيين والإسلاميين والقوميين، وأنه تحالفٌ وطنيٌّ تركي يشكّل إجماعاً يتجاوز الأيديولوجيات، لكن الاقتراب أكثر من حقيقة هذا التحالف يتكشّف عن أن جميعهم تحالف الضرورة، كرتوش تحسينية، بهذه الأحزاب المنشقّة عن "العدالة والتنمية" كالمستقبل والتقدّم والديمقراطية، وحزب السعادة. ولكن الهدف من هذه التحالفات بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري هو كسب أصوات المحافظين الأتراك، وهم الأكثرية، فيما لا هدف للأحزاب الإسلامية الثلاثة سوى تصفية حساباتها مع أردوغان وحزبه، رغم أنها تدرك جيداً أن تحالفها مع حزب الشعب الجمهوري يعني فقدانها أي قيمة شعبية لتصويتها من الأغلبية التركية المحافظة.
ختاماً، يمكن القول إن حزب الشعب الجمهوري ليس ذا تاريخ انتخابي مشجّع كثيراً، فمنذ أول انتخابات في تركيا في 14 مايو/ أيار 1950، لم يتخط مطلقاً عتبة 50% في كل الانتخابات البرلمانية الـ19، ففيها فاز الحزب الديمقراطي بـ 55,2%، فيما فاز "الشعب الجمهوري" بما نسبته 39,2%. والانتخابات الوحيدة التي فاز بها حزب الشعب الجمهوري بنسبة 40% في عام 1977. أما كل الانتخابات فلم يكن يحصل على نسبة تمكّنه حتى من تشكيل الحكومة أو تتجاوز نسبة 40% طوال 73 عاماً. وعلى العكس، يتمتع حزب العدالة والتنمية (الحاكم) برصيد انتخابي مشجّع منذ أول انتخابات خاضها بعد تأسيسه مباشرةً، وهي انتخابات مايو/ أيار 2002، وحتى آخر انتخابات خاضها في 2019، إذ ظل محتفظاً بمكانته المتقدّمة دائماً في الصدارة ولم ينهزم انتخابياً، ولا يعني هذا أنه يمكنه الفوز بسهولة في هذه الانتخابات، فهي أصعب انتخاباتٍ في تاريخ تركيا، وعلى ضوئها ستتحدّد مصائر ملفات وقضايا كثيرة وكبيرة عالقة في المنطقة والعالم ككلّ، باعتبار تركيا أقوى وآخر دولة ديمقراطية في العالم الإسلامي كله، وذات ثقل كبير على المستويات كافة.