نجيب سرور ... حبات البدار.. الجزء الثاني

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 15 مارس 2021, 11:31:36 م
  • eye 1928
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01


( نشر فريد الإبن الباق لنجيب سرور نداء ورجاء أليم موجع.. كي تتمكن أمه البالغة من العمر ٩٠ عاما الحصول على معاش والده الراحل .. حيث لم يعد لهم أي مصدر رزق آخر.. إلا أن هناك إجراءات بيروقراطية حصيفة تمنع ذلك حتى الآن..)

(٣)


حياته العائلية.. تجربته الأليمة في المصحة.. هل قضا في عضد "نجيب".. لا وألف لا.. حاصروه بالفقر إذن.. أن يكون الطعام والشراب ومتطلبات الحياة غاية الإستمرار فيها وليست محض وسيلة.. الكلمة عند نجيب إمتزجت بالمبدأ.. أي شقاء يكابده المرء حينئذ؟.. شقى من إرتبطت كلمته بالقيمة.. وسعيد من تزاوجت حروفه بالثمن.. تلك معادلة الرداءة والقبح.. عبقريته المتفردة كان يمكنها أن تأتي بالخفة والإبتذال.. أن تصبح كلماته " أكل عيش والسلام".. لكن إيمانه بقداسة الكلمة كان له وجاء.. 

إتهموه بالبذاءة حين كتب " الأميات".. أن يهمش شاعرا وكاتبا مسرحيا وناقدا فذا بحجمه.. أن يحاصر بالجوع والمرض.. أن يظل مطاردا بتهمة الجنون.. ماذا يمكن أن يكتب حينها؟.. وما البذاءة؟.. هل هي محض ألفاظ خارجة عن العرف والمألوف؟.. أم أفعال الحصار والكبت والوعيد؟.. ما ألطف وأجمل الألفاظ المنمقة المسجوعة الناعمة المتوائمة .. لماذا لم تصفها يا " نجيب" صفا منغما مرصعا بمحسنات اللغة.. هل لمثله أن يلام؟ 

قدم في " الأميات" تشريحا لفساد الثقافة والسياسة وقيم الصعود والترقي في المجتمع.... لم تزعجهم " بذائته" كما يدعون.. الحقيقة أنه فضح المستور وهتك المطمور ووجد الكثيرون أنفسهم عرايا أمام كلماته.. ولم تفلح في سترها كل أوراق التوت.. 

هاجم "جاهين" عندما كتب " الحياة بقى لونها بمبي".. مات الإثنين خنقا بالإكتئاب.. جيل حلم وبلغت أحلامه حد السماء.. تلاشت الأحلام.. تبخرت.. أفاقوا على الواقع المرير... الإنكسار طعن أرواحهم.. أدماها.. يصير الموت حينها أملا مرغوبا.. وغاية منشودة.. الكلمة تميت صاحبها.. ما بين البحث عنها ومرواغاتها وضفرها وسردها.. شوطا طويلا.. يقصف الآجال.. وثمنا مدفوعا إما عاجلا أو آجلا...تلك النداهة القاتلة.. الحبيبة الغادرة.. هل هذا ثمن العشق والوفاء؟..أسدل الستار على جسده في  وبقيت روحه محلقة خالدة.. 


"نحن حبَاتُ البِذار... 

نحن لا ننمو جميعاً عندما يأتي الربيع.. 

بعضُنا يهلكُ من هولِ الصقيع.. 

وتدوس البعضَ منا الأحذية.. 

ويموت البعضُ منا في ظلام الأقبية.. 

غيرأنا كلنا لسنا نموت.. 

نحن حبَاتُ البِذار.. 

نحن نعلم أن أطلالَ القبور.. 

ستُغطى ذاتَ يومٍ بالسَنابل.. 

وسينسى الناس أحزانَ القرون.. 

وسينسون السَلاسلَ والمقاصل.. 

والمنافي والسُجون.. 

وسنكسو الارضَ يوماً بالزُهور.. 

وستأسوالفرحةُ الكبرى جراحاً في الصدور.. 

فرحة النصر إذا جاء الربيع.. 

نحن إذ نحيا فمن أجل الربيع..

وإذا متنا فمن أجل الربيع "..



(٤)


هل كفر " نجيب" بالوطن؟.. قد يعذره البعض إن فعل.. كتب لإبنه الراحل " شهدي" قصيدة طاعنة :



"إياك تقول من العذاب:.. هذا جناه أبي.. 

ما كنت أقولها وكان أولى أبويا جناه.. 

أبويا مجني عليه زيى وياما غبي.. 

قال علي القتيل إنه قاتل آه يا شهدي آه.. 

آه يا ابنى يا وردة لسـه منورة ع الغصن.. 

اوعى الخيانة يا كبدي، إوعى م الأندال.. 

الفن أصبح خيانة، والخيانة فن.. 

شوف الشوارع وقول لي فيها كام تمثال؟.. 

بلدنا فيها الكرم حتى لـ لاظوغلي.. 

لاظوغلى مين؟ واللّـه ما اعرف. نظرة يا عرابي!.. 

عارف عرابي يا شهدي؟ والنبى تقول لي.. 

على رأى عمك شكوكو: "... يا خرابى".. 

سبع سنين، يا ابني، ما اعرف يا ترى عيان.. 

عريان، جعان، ولاَّ ميت، ولاَّ لسَّـه حيّْ؟.. 

سبع سنين، يا ابني، فى الغربة وانا إنسـان.. 

مش أعمى، لكن بـ افتش فى النهار ع الضيّْ.. 

يا ابني، يا دمي، يا صبري اللى زهق م الصبر.. 

الله يجازي اللى جاب لي فى الشباب داءين... 

سُـكَّر فـ دمي، وفوقه جاب لي داء السكْر.. 

وحاش طبيبي، وانا محتاج يا شهدي اتنين.. 

عيان يا شهدي، واديك شايف وليلي طويل.. 

وتصحى يا ابني، تلاقيني م الألم سهران.. 

يا حمَّى للصبح، آه يا يا ليل يا عين يا ليل.. 

ياخسارة! آدي الجدع، سكران ومش سكران..

يشرب ويشرب، عشان ينسى، ولا بينسى ..

الصلب، والشنق، والهول اللى ماله علاج ..

يا اللي نسيتوا، قولوا لي ازاى قتيل ينسى ..

ولاَّ انتو برضه اللي قالوا: "اصلبوا الحلاَّج"..

قالوا لي: "بيعُه"، قالوا لي، يا ابني: "بيع ابنك" ..

وجَوَّعوني، يا شهدي، في بلاد برَّه ..

قالوا لي: " هـ تموت "، و قلت: "أموت" عشان خاطرك.. 

وموتوني، وانا عايش، ميتين مرة.. 

خاطرك كبير عندي، يا ابني، وكله يرخص لك.. 

وانت وانا للتراب، نرخص ونفدي مصر.. 

يا مصر: كبدي تمن، يرخص عشان خاطرك.. 

لو حتى قالوا التمن يا مصر هوّ القبر.. 

سبع سنين، يا ابني، يا نارى من المنفى.. 

سبع سواقي بـ تنعي لم طفوا لي نار.. 

وجيتني، يا ابنى، وقالوا كان فى مستشفى.. 

ونارى ما تنطفي إلا بـ أخد التيار.. 

قالوا :"انتهى"، قالوا: "يعني خلاص، بقى مجنون"..



أيا أيها المظلوم المطعون حيا وميتا.. هل كنا حقا نستحقك؟

التعليقات (0)