- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
نور الدين ثنيو يكتب: الجزائر وفرنسا: نقد الاستعمار في وضعية استعمارية وما بعدها
نور الدين ثنيو يكتب: الجزائر وفرنسا: نقد الاستعمار في وضعية استعمارية وما بعدها
- 6 مايو 2023, 5:56:13 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في هذا المقال، نحاول أن نجيب على تساؤل فرض نفسه على الوعي العربي لما بعد الاستقلال: « لِمَ لَمْ يتطور نقد ما بعد الاستعماري في العالم العربي؟» وندرسه كحالة جزائرية، ونقصد أن الوضعية الاستعمارية، كما مرت على الجزائر طوال الحكم الاستعماري، تؤكد حقيقة أن تاريخ وفضاء الجزائر لم يكن مكتفيا بذاته، بقدر ما أنه كان يندرج مع الحياة الفرنسية، ليس بالاستقلال التام، ولكن بنوع من التعاون على ما جاء في وثيقة استفتاء الجزائريين على استقلالهم يوم 3 يوليو/تموز 1962، حيث ورد في نص وثيقة الانتخاب: «هل تريد أن تصبح الجزائر دولة مستقلة متعاونة مع فرنسا، حسب الشروط المقررة في تصريحات 19 مارس/آذار 1962؟»، وكانت النتيجة تقارب الإجماع بنعم 99.72 %. ويُعَد الاستفتاء بمثابة توقيع الأمة على هذا المسار الشرعي الجديد، ويأخذ دلالته من التواصل والتعاون والمستقبل المشترك بين الجزائر وفرنسا.. لكن واقع حال ما بعد الاستعمار استمر في فرنسا، وخاب كل الخيبة في جزائر ما بعد الاستقلال ليحل محلة توجه نحو تجاوز «النظام الوطني»، وتَوَارت خلفه مواصلة تعرية النظام الاستعماري.
جرى التأكيد إلى حد الآن على أن تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر تاريخ استعمار استيطاني، نفذ إلى العمق بقدر ما غيّر هياكل المجتمع وبناه الذهنية والمادية، مع احتمالات أخرى سعت إلى بلورة وتطوير وضعية جديدة لفرنسيين في الجزائر تختلف عن وضعيتهم في فرنسا، على ما عرف مطلع القرن العشرين «بنزعة الجزأرة»، التي بدأت مع أعمال إيمانويل روبلس (1914-1995)، ولم تنته عند ألبير كامو (1913-1960)، وضمت كوكبة من الأدباء والباحثين، واصلوا أعمالهم ونشاطهم العلمي في فرنسا وأوروبا بصورة عامة، وليس في الجزائر التي أغلقت باب موضوع الاستعمار والاستشراق، ولم ترغب في تناوله لعدم توفر المجال الأكاديمي الخاص وسيادة ثقافة حصرية لم تكُف عن التنديد باستعمار لا تظهر إطلاقا ملامحه ومعالمه، وكأنه يعبر عن الخوف من الاستقلال سكن دواليب السلطة الوطنية الجديدة، التي انفردت بالحكم، وأهملت التعاون الحر والعلمي والأكاديمي مع فرنسا، على خلاف ما جاء في ورقة الاستفتاء على نهاية الحكم الفرنسي في الجزائر.
الوضعية الاستعمارية كما عايشها الفرنسيون والجزائريون هي حالة تلازم ومجايلة سياق تاريخي في كل تفاصيله، لأنه كان يؤثر في الاثنين معا
تاريخ الجزائر زمن الاحتلال الفرنسي ليس تاريخ مقاومة وحركة وطنية وإصلاحية فحسب، بل تاريخ فرنسا المعاصرة في الجزائر، سواء زمن الإمبراطوريات، أو زمن الوحدات السياسية الجديدة التي أطلق عليها لحظة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بالدول القومية، أي الدول التي تستند في شرعيتها الدولية إلى مقومات الأمة. وتكوين الأمة الجزائرية في مدلولها الحديث والمعاصر جرى في هذا السياق مع فرنسا وضدها أيضا، لكنه في نهاية المطاف أعطى الشرعية والمشروعية للكيان الجزائري، وفق معايير وشروط المنظومة الدولية، خاصة منها تلك التي كرستها هيئة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، في جملة من القواعد القانونية والدبلوماسية والسياسية والحكومية وغير الحكومية. الجزائريون، بعد الاستعمار لم يواصلوا نقدهم للاستعمار والسعي إلى تجاوزه بالفكر والمعرفة والنقد الثقافي، لعدم توفر متَيَسِّراته على صعيد الدولة الجزائرية المستقلة، بل كل ما في الأمر أن هذا النوع من البحث واصله الجزائريون مع الفرنسيين وغيرهم في فرنسا، الذين لاذوا إليها كمعارضين ومعترضين على الفضاء الضيق جدّا لمعنى الاستقلال في الجزائر. ونأخذ على سبيل المثال المفكر الجزائري محمد أركون، الذي أرسى معالم دراسات إسلامية حديثة ومعاصرة تتجاوز وتتخطى الاستشراق، ومحمد حربي المناضل والمؤرخ الجزائري الذي أرسى مع زملاء فرنسيين مقاربة جديدة تجاوزت النزعة الاستعمارية إلى ما بعدها، أبرز إنتاجاته الدالة في هذا المجال «حرب الجزائر، نهاية النسيان» الذي صدر في جزأين، عام 2004 كحصيلة مؤتمر دولي شارك فيه أهم المؤرخين والباحثين في شأن الاستعمار الفرنسي. وقد دفع التفكير في هذا الشأن، أي التواصل في نقد الاستعمار لحظة ما بعده، إلى المؤتمر الدولي الذي نظمه الجزائريون في فرنسا أيام 25،24،23 يونيو/حزيران 2022، في جامعة السوربون/ البنتيون بمناسبة مرور ستين سنة على استقلال الجزائر، كان الفرنسيون على قلتهم هم الضيوف، ما ينم في التحليل الأخير، على أن فرنسا فضاء واسع وممكن لمواصلة الجزائريين التفكير والكتابة في موضوع النقد لما بعد الاستعمار، وأن الجهاز والأدوات والمفاهيم التي يوظفها في هذا المجال ليست أوروبية، بل هي جزء عضوي من ثقافتهم التي لم تبتعد عن الوضعية الاستعمارية، حيث يحاول كل الفاعلين أن يلتمسوا لأنفسهم أفضل تعبير وإعراب عن الذات وعن الموضوع في الوقت نفسه. فالحالة الاستيطانية ليست مستهجنة لذاتها بقدر ما أنها تلح على تجاوزها، وقد تم ذلك في العهد الاستعماري في الجزائر، وفي العهد لما بعد الكولونيالي في فرنسا من قبل الفرنسيين، والجزائريين أيضا، فقد بدأت تجربة نقد الاستعمار الفرنسي والتطلع إلى ما بعده مع الطبيب والبرلماني فيليب غرينيه (1865-1944)… ولم تنتهِ عند الكاتب العسكري فانسان مونتاي (1909 ـ 2005)الذي اعتنق الإسلام باسم منصور مونتاي، وقام بترجمة أعظم كتاب عربي «مقدمة ابن خلدون» تحت عنوان دال «الخطاب العالمي» في ثلاثة أجزاء في غاية الدقة والوضوح، الذي يعيد الاعتبار والأهمية للمقدمة، وفي الوقت ذاته يكشف مدى تقنية ودقة اللغة الفرنسية في ترجمة معاني اللغة العربية وعبقريتها. والتجربة على ما يطلعنا سجل الوقائع والأحداث ومواقف الرجال تنم ليس على حالات شاذة واستثنائية، بل عن ظاهرة توفر درس نموذجي مغاير تماما لما حاول الفكر الإسلامي لما بعد الاستقلال أن يكرسه عن الاستعمار والاستشراق والغرب بصورة عامة.. لأن التجربة متنوعة ومختلفة وواسعة بالقدر الذي تساهم في تجديد الفكر العربي والغربي على السواء، لأن مفهوم النقد يخترق كليهما في تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ويكفي للدلالة على ذلك أن أول صحيفة صدرت عن الحركة الإصلاحية الجزائرية عام 1925، حملت عنوان «المنتقد» بمعناه المدني والسياسي والديني والأخلاقي. الوضعية الاستعمارية كما عايشها الفرنسيون والجزائريون هي حالة تلازم ومجايلة سياق تاريخي في كل تفاصيله، لأنه كان يؤثر في الكيانين معا إنْ في الجزائر أو في فرنسا، على ما عهدنا ذلك إبان الثورة الجزائرية التي يفَضَّل الفرنسيون تسميتها بحرب الجزائر، التي تسببت في سقوط خمس حكومات فرنسية وعودة الجنرال ديغول إلى الحكم مُدَشِّنا الجمهورية الفرنسية الخامسة، بناء على دستورها الجديد عام 1958. وهذا التلازم والتصاهر هو الذي يؤشر في النهاية إلى أن الوضع التاريخي للجزائر لا يشبه بقية بلدان العالم العربي، التي بقيت هياكلها الإجتماعية والثقافية والدينية عند لحظة ما قبل الدولة الحديثة واكتفت فقط بحالة انتداب أو حماية أجنبية.