- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
نور الدين ثنيو يكتب: فرنسا الاستعمارية وتجربة الإسلام الجزائري
نور الدين ثنيو يكتب: فرنسا الاستعمارية وتجربة الإسلام الجزائري
- 5 أغسطس 2023, 7:23:52 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هذا المقال ليس شماتة في فرنسا الاستعمارية ولا فرنسا بعد استقلال الجزائر. نحاول أن نقف على الحالة التي كان عليها الإسلام زمن الاحتلال الفرنسي للجزائر، أو ما عرف بالوضعية الاستعمارية، فقد خاضت فرنسا تجربة تاريخية مع الإسلام، وتَمَكَّنت من تسييره ولو نوعا من التسيير، بالقدر الذي يحسب عليها الإسلام الحديث والمعاصر، وأن الإخفاق في إدارة شؤون الدين والعبادات، يُعَلَّق عليها وتتحمّل مسؤوليته بالكامل، لأنها حكمت البلد بكل ما يَمْلِك من مقومات ومقَدّرات اجتماعية وروحية ورمزية ودينية وسياسية، خاصة بعد صدور قانون الفصل، ديسمبر/كانون الأول 1905، ثم مرسوم تطبيقه في الجزائر في سبتمبر/ أيلول 1907.
ارتكب الاستعمار الفرنسي في الجزائر خطأين قاتلين له وللجزائر، عندما تنصل من مسؤوليته في إدراج الإسلام القائم على المؤسسة، المتعالي عن الطرق والمذهبيات والذهنية المتكلسة
كانت لفرنسا الاستعمارية إمكانية التعامل مع الشأن الديني بالكيفية التي يسمح لها إدراج الإسلام في مؤسسات رسمية قانونية وإدارية، يظهر الوجه المدَنِي والحضاري والإنساني له، دين ملايين من المسلمين في الجزائر وفي غيرها، حيث تمتد الإمبراطورية الفرنسية، الذي اعتبرت على أساسه إمبراطورية إسلامية. لكن الاستعمار أخذ مدلوله من هذا الجانب بالذات، أي التعامل مع الدين الإسلامي على غير مبدأ الفصل ومفارق له تماما، على غير ما هي عليه الكنائس المسيحية، التي استفادت من ابتعاد السلطة السياسية عن مجال الدين، ومن ثم أضاعت فرنسا فرصة قلّ نظيرها في تاريخنا الحديث والمعاصر، في الاستفادة من تجربة دولة متقدمة، مع إسلام يبحث عن حداثته وإمكانية التواصل مع حياتنا المعاصرة ليس للمسلمين فحسب، بل للمجتمعات الأخرى أيضا.
لكن الأمور جرت على غير هذا المجرى، وارتطمت فرنسا بحالة من الإخفاق في إدارة الشأن الإسلامي، وكانت أول بلد يفشل في ذلك قبل البلدان الإسلامية التي حصلت على الاستقلال بعد الحقبة الاستعمارية. كان للدولة الفرنسية كامل السلطة الإدارية والسياسية والقانونية لإدراج الإسلام كقيم وروح وحياة اجتماعية وإنسانية في كل المنظومة الدولتية، والاعتراف بالإسلام كحقيقة فرنسية وكأفضل سبيل إلى ترقيته وازدهاره في حياة المسلمين حيثما كانوا. ولعلنا لا ننحرف عن الصواب قيد شعرة، عندما نقول إن عدم التكفل بالإسلام كحقيقة فرنسية هو الذي يرتد على فرنسا، وينغص عليها في الزمن الراهن، عندما لم تدرك كيف تعيد طرح موضوع العلمانية في مواجهة الإسلام، الذي تصر على أنه دين غريب عنها، مع أنه كانت لها تجربة طويلة وعريضة وعميقة في التاريخ والجغرافيا، وأخفقت فيه بالقدر الذي يُدرج في سجل بدايات الأصولية والتزَمّت والعنف والإرهاب الديني، لأن ظاهرة الاستعمار هي كلٌ وهي نظامٌ لا يمكن فَصْم عراها إطلاقا. والمقدمات لا تعني بالضرورة النهايات، خاصة البلدان التي عرفت كيف تمارس السياسة بمدلولها النبيل، لفائدة الشعب ومؤسساته، التي بقيت عصية على التمليك والاحتكار والاستغلال. كان الإسلام الذي أطلقت عليه السلطة الفرنسية الإسلام الجزائري، يوفر إمكانية للجزائريين كلهم، بمن في ذلك الفرنسيون أنفسهم لأنهم كانوا يُعْرَفون ويَتَعَّرفون على أنفسهم بالجزائريين، أي سكان فرنسا في الجزائر، وكانت لبعضهم إمكانية خوض تجربة روحية ودينية مع الإسلام، والتجربة كادت أن تكون رائدة، لو أدرجته الدولة الفرنسية ضمن مؤسساتها، واستوعبته في قوانينها ولوائحها، بالقدر الذي يأخذ مظاهره الحديثة والمعاصرة، لأن الاجتهاد الكبير المنتظر للإسلام هو، كيف يجب أن تتعامل معه دولة متقدمة ومتطوّرة بعد تواري اجتهادات الفقهاء والمذاهب والطرق وشيوخ الزوايا وقادتها، وإلى اليوم، لم تتمكن فرنسا من الإقدام على خطوة تعيين إطارات مسجد باريس مثلا من الفرنسيين من ذوي الأصول الجزائرية كأفضل طريقة للتكفل بالإسلام كحالة فرنسية رسمية تحسب على التاريخ الفرنسي الحديث والمعاصر. هذا وجه من وجوه الإسلام الجزائري في التجربة الاستعمارية الفرنسية، أما الوجه الآخر فهو تجربة الحركة الإصلاحية الجزائرية، التي لم تتعامل معها الدولة الفرنسية كمؤسسة دينية واجتماعية وروحية لفائدة جميع السكان، وليس الأهالي فقط، لأن التعبير باللغة الفرنسية عن الحركة الإصلاحية كان موجودا وله منابره الفكرية والسياسية والثقافية مثل جريدة الإسلام /Islam، الإقدام / Ikdam العدالة /La Justice، صوت الشعب / la Voix du peuple ، الدفاع/ La Défense، الشاب المسلم / Le Jeune Musulman… علاوة على قرابة الألف من المستعربين والمستشرقين، ومن عملاء فرنسيين كانوا يديرون شؤون الأهالي. وهذا هو الوجه الآخر لمدلول الاستعمار في التجربة الفرنسية، عندما يعني تصنيف السكان عبر الدين، وتمييزهم في مراكز قانونية واجتماعية، وحتى سياسية في زمن حكم مدني يأبى بطبيعته وجود شعبين في نظام دولة واحدة. كانت للحركة الإصلاحية الجزائرية تجربة تاريخية بالمعنى الذي يشير إلى تَصَدِّيها للنظم الطُّرقية والاستعمار في الوقت ذاته. فقد انبرت وواجهت التَّخلف الديني الذي كانت عليه الزوايا والفِرق والمذاهب وحالة التَّدين الأهلي العام، ليس لأن الإصلاح يعني إصلاح فساد فحسب، بل لأن الإسلام الجزائري تبنته الإدارة الفرنسية إسلامها الرسمي، من حيث تعيين الأئمة والمفتين والقضاة والوكلاء ومترجمي المحاكم الشرعيين، وكل عناصر السلك الديني الإسلامي، أي الإسلام الوراثي، على حد تعبير الشيخ عبد الحميد بن باديس. ومن هنا الصلة العضوية المتينة بين الإصلاح الديني ومحاربة الاستعمار في اللحظة والتجربة ذاتها. تاريخ الحركة الإصلاحية في سياق الوجود الفرنسي في الجزائر هو تاريخ مناهض لاستعمار مبرر وجوده، ليس الاستغلال الاقتصادي كما كان شائعا ومنتشرا في أوروبا فحسب، بل لأنه أراد أن يستثمر في التخلف الذي كان عليه السكان الجزائريون، خاصة الدين الإسلامي المقوم الجوهري لهم، وعليه، فقد ارتكب الاستعمار الفرنسي في الجزائر خطأين قاتلين له وللجزائر، عندما تنصل من مسؤوليته في إدراج الإسلام القائم على المؤسسة المتعالي عن الطرق والمذهبيات والذهنية المتكلسة ونظم الشيوخ والطقوس والشعائر التي تتنافى مع مفهوم ومقَوّم وتعبير الدولة الحديثة والمعاصرة. فقد كان جهد ابن باديس وحركته، رغم مدنيته وإنسانيته، بعيدا عن مجال الدولة ومؤسساتها، التي تتعامل مع الجميع ويحرص على احترامها الجميع أيضا، وتلك هي الخاصية العظمى، التي فاتت على الدولة الفرنسية، ولم تتمكن منها الحركة الإصلاحية لأنها كانت بعيدة، أو بالأحرى خارج المؤسسات القانونية والإدارية والسياسية للدولة الفرنسية.
وبهذا المعنى، مع جملة معان أخرى، تعاني فرنسا اليوم من حالة تشرذم في مؤسساتها وأجيالها المتلاحقة والمتعاقبة تتأصل في المجتمع والأمة والدولة، وتبقى دائما عصية على الاستيعاب، لا بل تخشاه بالقدر الذي يفجعها في أهم مقوماتها وفي هويتها بالذات، فعدم الاعتراف بالإسلام كثاني دين رسمي، يجري عليه ما يجري على الديانة الكاثوليكية، هو الداء العضال الذي لم تتمكن الشفاء والتعافي منه. وما تنكرت له فرنسا بالأمس يرتد عليها اليوم