- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
د.يسرى عبدالغني يكتب : حتى في المنفى نعرف الحب !!
د.يسرى عبدالغني يكتب : حتى في المنفى نعرف الحب !!
- 10 يونيو 2021, 2:44:00 ص
- 808
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عندما نفي أحمد شوقي إلى أسبانيا ، منفاه الاختياري ، طلب أن يصاحبه في نفيه ولداه (حسين ) و (علي) ، ولم يطلب اصطحاب السيدة زوجته معه إلى أرض الغربة والنفي
وقد نفي شوقي قبل سعد زغلول ، وكلاهما متعاصران في مجتمع واحد ، له تقاليد وعادات وأعراف واحدة ، وكلاهما تزوج زواجًا تقليديًا ، بلا حب ، أو هيام ، أو غرام ، أو عشق ، ولكن الطباع تختلف ، والرؤى كذلك
كذلك نفي الوزير والشاعر ، ورب السيف والقلم ، وباعث الشعر العربي من مرقده في العصر الحديث / محمود سامي البارودي ، بعد فشل الثورة العرابية سنة 1882 م ، ودخول الإنجليز القاهرة ، ومحاكمته مع رفاقه العرابيين ، محاكمة ظالمة ، نفي إلى جزيرة (سيلان) أو (سرنديب) أو(سيرلانكا) ، ولكنه هو الآخر لم يصطحب معه زوجته ، ولكن لم يكن ذلك بحر إرادته ، بل بإرادة الاستعمار الإنجليزي الذي لم يسمح له بذلك .
مكث البارودي ، أول من أطلق عليه لقب أمير الشعراء في أدبنا العربي ، والذي أطلق هذا اللقب عليه الأمير المناضل / شكيب أرسلان ـ أمير البيان ، مكث في منفاه الإجباري سبعة عشر عامًا ، قال البارودي فيها أروع قصائده ، يبثها شكواه وحنينه إلى الوطن الأم ، ويصف كل ما حوله من مظاهر الحياة والطبيعة ، ويراسل الأدباء ، ويرثي من مات من الأهل والأصدقاء والمعارف ، كما أنه تعلم اللغة الإنجليزية في منفاه ، وهي لغة أهل سرنديب المستعمرة الإنجليزية في تلك الآونة ، وقد ساعده ذلك على قراءة الأدب الإنجليزي ، والصحف الإنجليزية التي كانت تصل إلى الجزيرة .
نفس الأمر بالنسبة لشوقي ، حيث كان يتردد على المكتبات الأسبانية ، ويعب عبًا من التراث الأندلسي ، ويزور الآثار الأندلسية ، وقد انعكس ذلك على شعره بعد عودته من المنفى .
ولكن البارودي ، مع طول النفي ، أورثه النفي السقام والعلل ، فكف بصره ، وضعف سمعه ، ووهن جسمه ، ونضح شعره بالعذاب والألم ، واشتد على البارودي وطأة المحنة حين خطف الموت ابنته (سميرة) ، وزوجته ، والعديد من أصحابه ، ثم زوت في كيانه الزاوي رجفة أو قل خفقة روح حين صدرت الأوامر بالعفو عن العرابيين المنفيين , فرجع إلى مصر المحروسة ، سنة 1900 م ، ولكن المنية لم تمهله طويلاً ، فأسلم الروح راضيًا مرضيًا عند ربه ، في شهر شوال سنة 1322 هـ = شهر ديسمبر سنة 1904 م ، ولكن البارودي كتب عن وفاة زوجته ، ووفاة ابنته ، أعذب الألحان ، وأجملها .
وقد جدد البارودي كذلك في غزله الشعري ، فلم تعد المرأة مجرد دمية يلهو بها ، ويتفنن في وصف جمالها الحسي ، كما لم يعد الحب عند البارودي مجرد متعة جسدية يصورها في عري وابتذال ، بل سمت نظرته إليها ، والتمس فيها متعة الروح ، ونعيم القلب ، ومجد معنوي جعل الحب السحري النقي الصافي يهذب النفس ويصقلها ، ويصل بها إلى أجواز الفضاء .
كما فطن البارودي إلى الجمال المعنوي وراء الظاهر المادي المبتذل ، وعندما توفيت السيدة / زوجته ، وهو في منفاه ، فرثاها بصدق شديد ، ويبدو من دراسة حياة البارودي أنه كان له زوجة ثانية ، أ, أنه تزوجها بعد عودته من منفاه في سرنديب ، لأن هذه الزوجة الثانية قامت بطبع ديوانه الشعري بعد وفاته ، إلى أن وصلت إلى قافية حرف (الميم) ، وكان رب السيف والقلم قد تفرغ لضبط أشعاره ، وتبويبها ، وشرح ألفاظها الصعبة ، أو الغريبة ، حتى تكون معدة للنشر ، إلا أن الأجل لم يوافيه حتى يطبعه ، فتولت السيدة / زوجته طباعته على نفقتها الخاصة .
إلا أن وزارة المعارف العمومية المصرية (التربية والتعليم الآن) تولت بعد ذلك طبع ديوان البارودي كاملاً ، بمقدمة مهمة مفيدة ، كتبها الدكتور / محمد حسين هيكل باشا ، والتي من قبلها بسنوات كتب مقدمة ديوان أمير الشعراء / أحمد شوقي (الشوقيات) ، والتي أرى أنه يجب أن تكون هي المعتمد في أي دراسة نقوم بها عن أمير الشعراء ، مع كل الاحترام و التقدير و التوقير للطبعات التي جاءت بعد ذلك ولأصحابها .