د. سنية الحسيني تكتب: ملاحظات على هامش الحرب الدائرة في الشرق الأوسط

profile
د. سنية الحسيني كاتبة وأكاديمية فلسطينية
  • clock 18 أكتوبر 2024, 11:04:21 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أثبت هذه الحرب عدد من المعطيات المهمة لوضعها بعين الاعتبار عند دراسة مستقبل هذه المنطقة. أول تلك المعطيات أن إسرائيل ليست إلا قاعدة أميركية هدف وجودها الأساسي في قلب الوطن العربي ضمان تبعية منطقة الشرق الأوسط للسياسة الأميركية وخدمة لمصالحها.

لا تبالي الولايات المتحدة بعدد الضحايا الذين يسقطون، طالما يخدم ذلك الهدف العام لمصالحها.

في أوكرانيا تم التضحية بآلاف المدنيين الأوكرانيين، بهدف ردع روسيا. وفي فلسطين ولبنان لا يشكل المدنيون إلا وقود حرب تضمن بقاء وقوة إسرائيل في معادلة القوى في المنطقة. وفي الحرب الإيرانية العراقية، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية البلدين عسكريا، لإضعافهما، حيث خلفت تلك الحرب أكثر من مليون قتيل.

في معادلة الصراع بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، استثمرت إيران بمكانتها وقوتها الجيوسياسية في المنطقة، فدعمت امتدادها الشيعي وحملت شعار دول المقاومة، التي تعاني من الاحتلال والاعتداء الإسرائيلي المدعوم أمريكيا، لكسبهم في صفها، فنجحت في بناء حلف مساند، في حين عملت الولايات المتحدة وإسرائيل للتغطية على الضعف الجيواستراتيجي لإسرائيل، العميل الاستراتيجي التابع لها في المنطقة، على كسب أحلاف لها فيها، فركزت على سياسة التطبيع، التي بدأت بمصر والأردن، واهتمت بشكل خاص بعد ذلك بدول الخليج، جيران إيران التاريخيين. كما اعتمدت كذلك على التركيز على التفوق العسكري والتكنولوجي لإسرائيل، بما يضمن القوة المطلقة لها، إلا أن تغير مفهوم الحروب ودخول أدوات جديدة عليها، وازن تلك المعادلة، وهو ما نشهده في الحروب الدائرة اليوم. فغزة ولبنان والعراق واليمن وإيران تشتبك فعلياً مع القدرات الأميركية الغربية العسكرية والتكونولوجية الهائلة، وتحقق انتصارات.

إن الهدف الذي دعت اليه الولايات المتحدة بتحقيق شرق أوسط جديد قبل سنوات، يتقاطع مباشرة مع ما يعلنه نتنياهو حالياً بتغيير معادلات المنطقة، ويتحقق ذلك بشكل أساسي من خلال القضاء على أية معارضة لسياسات الولايات المتحدة وإسرائيل فيها. لذلك تركز إسرائيل اليوم على تدمير أو ردع أية قوة معارضة لها في المنطقة، بدءاً من فلسطين مروراً بلبنان وسوريا والعراق واليمن وصولاً لإيران، وهو ما يتقاطع مع أهداف الولايات المتحدة أيضاً.

إن أهداف الولايات المتحدة في المنطقة، ووجود إسرائيل فيها، على حساب شعوب المنطقة الأصليين ومصالحهم، والذي تثبته تلك الجرائم التي اقترفت ولا تزال من قبل البلدين بحق عشرات، بل مئات الاف الأبرياء، تفرض على بلدان المنطقة النظر بحرص للدور الأمريكي فيها، وخطر التحالف معها، خصوصا في ظل قوى دولية صاعدة جديدة، لا تحمل ذلك العداء والدموية لأهل المنطقة.

وعلى الرغم من كل عوامل القوة التي تمتلكها الولايات المتحدة وإسرائيل، خصوصا الجانب العسكري والتكنولوجي، من الممكن احباط ذلك العامل من القوة، بشكل سلمي وبدون الحاجة لأي اشتباك عسكري، وذلك بوقف أو تعطيل عامل القوة الثاني الذي تمتلكه الولايات المتحدة وإسرائيل، أو تسعى لامتلاكه وهو عمال التطبيع، والذي يجب النظر اليه ضمن عامل الحرص على مصالح المنطقة ككل.

وأثبتت التجارب فيما يتعلق بالفلسطينيين، أنهم وقعوا أولاً ضحية مباشرة لاستهداف غربي واسع للمنطقة، حيث زرعت إسرائيل في بلادهم، فدفعوا ثمناً مباشراً، كما أنهم وقعوا أيضاً ضحية لمؤامرة سياسية خطيرة، بالسعي لعزل القضية الفلسطينية عن سياقها العربي، لإضعافها، من خلال التطبيع، في استهداف آخر كبير غير مباشر لقضيتهم ومستقبلها. فتوجه الفلسطينيين نحو التسوية السلمية على سبيل المثال جاء بضغوط عربية، استغلت الضعف الذي لحق بهم في مراحل معينه. وجاء توقيع الفلسطينيين على إتفاق أوسلو بعد ذلك في ظل حالة من اختلال ميزان القوى بين الفلسطينيين والاحتلال لصالح الأخير بشكل يصعب مقارنته.

وليس المقصود هنا بالقوة فقط تلك العسكرية والأمنية والتكنولوجية والاقتصادية، التي حسمت سيطرة الاحتلال على فلسطين، بل أيضاً القوة السياسية، والتي تنبثق في الأساس من الامتداد العربي وعلاقة الفلسطينيين بامتدادهم التاريخي، والذي عمل الاحتلال عن وعي على تحيده عبر كل تلك السنوات الماضية. فعزل الفلسطينيين وقضيتهم عن السياق العربي، أضعفها. إن ذلك يفسر مدى المعاناة التي دفعتها القضية الفلسطينية عندما ربطت الولايات المتحدة مصالح دول مركزية عربية في المنطقة وأخرى مجاورة لفلسطين بها، وبالتالي بإسرائيل. وليس خفياً تلك المبادرات والمساعي التي تبذلها الولايات المتحدة وبشكل معلن لتحقيق تطبيع الدول العربية مع إسرائيل، وهي سياسة مستمرة وممتدة منذ عقود.

من أهم الملاحظات التي يجب وضعها في الاعتبار أن الشعب الفلسطيني ورغم كل هذه المعاناة التي عاناها منذ مطلع القرن الماضي حتى اليوم لم يتوقف عن المطالبة بحقه، ولم يقبل بالمخططات التي حيكت ضده، ولم يستسلم لإجراءاتها، رغم جميع المحاولات المسخرة لسلبه أوراق قوته، الأمر الذي يعني أن هذه المنطقة لن تشهد إستقراراً أو هدوءاً إلا إذا حصل الفلسطينيون على حقوقهم.

وهناك قضية أخرى تتعلق بالملاحظات ترتبط بايران ودورها في المنطقة، ومعادلة التوازن. لابد من التأكيد على أن إيران تعمل في المنطقة كأحد القوى المركزية فيها من أجل مصالحها في الأساس. ومنذ صعود الثورة الإسلامية في العام ١٩٧٩، تناقضت مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة، التي اتخذت موقفاً عدائياً منها منذ اليوم الأول لهذه الثورة، بعد أن خسرت نظام الشاه، أحد أهم حلفائها خلال فترة الحرب الباردة، التي قامت أهم استراتيجيتها على أساس سياسية الاحتواء. فلم تنسج علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين بعد الاستيلاء على السفارة الأميركية في ذات عام الثورة، وقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ ذلك الوقت، وليس هناك سفارة لإيران في واشنطن حتى اليوم.

في تسعينيات القرن الماضي، وبعد الحرب العراقية الإيرانية، قررت إيران تطوير قدرتها النووية، على غير الرغبة الأميركية، فاستعانت بروسيا والصين لتحقيق ذلك. وفي العام ٢٠٠٢ جرى الكشف عن وجود موقعين نوويين في إيران، فبدأت الجهود الأميركية الغربية لوقت تقدم البرنامج النووي الإيراني. تعاملت إيران وفق سياسة براجماتية دبلوماسية، ولم تتصد صراحة لتلك الجهود الغربية، وأكدت على مساعيها للحصول على الطاقة النووية السلمية. إلا أن الشكوك الغربية بقيت حاضرة، وأدينت إيران في العامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٥ لعدم التزامها بالتعامل بشفافية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتبنى مجلس الأمن القرار رقم ١٦٩٦ في العام ٢٠٠٦ الذي دعا إيران لتعليق برنامج تخصيب اليورانيوم لأول مرة، وكان مقدمة لصدور عدد من القرارات بعد ذلك فرضت عقوبات على إيران لعدم التزامها بتعليق أنشطة التخصيب.

ما بين العامين ٢٠١١ و٢٠١٥ نشطت التفاعلات الدبلوماسية بين إيران ومجموعة الـ ٥+١ والتي انتهت بتوقيع اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة في العام ٢٠١٥، في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما، والذي واجه معارضة شديدة من قبل إسرائيل، بقيادة رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. ودعت الخطة لخفض إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسب عالية لمدة ١٥ عام، وتخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي بنسبة الثلثين لعشر سنوات، وتسهيل مهمة كشف المفتشين الدوليين على البرنامج، مقابل خفض العقوبات تدريجيا عن إيران. وبالفعل صدر القرار رقم ٢٢٣١ عن مجلس الأمن الذي مهد لذلك، وفي العام ٢٠١٦ بدأ خفض العقوبات عن إيران.

بعد صعود دونالد ترامب للحكم انسحب من خطة العمل المشتركة بشكل أحادي، واعادت ادارته فرض العقوبات على إيران في العام ٢٠١٨، وهددت حلفاءها من مواصلة التعامل مع إيران.

وفي العام التالي صنفت الولايات المتحدة الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، وهي المرة الأولى التي تصنف فيها الولايات المتحدة جزءًا من حكومة أجنبية على هذا النحو، ونشرت قاذفات بي-٥٢ القادرة على حمل رؤوس نووية، ومجموعة حاملة طائرات، وبطاريات صواريخ باتريوت إضافية في الشرق الأوسط، كما نشرت ٢٥٠٠ جندي إضافي في الشرق الأوسط لردع إيران.

خلاصة القول، إن العداء الأمريكي والإسرائيلي لإيران عميق ومعلن، فسعت جميع الإدارات الأميركية لتقويض قوتها ومكانتها، وإن اختلفت الوسائل، ولا مجال للشك في إمكانية تحالف إيران مع الولايات المتحدة وإسرائيل في ظل النظام الإيراني الحالي. إلا أن استراتيجية إيران تقوم على محاربة أعدائها بعيداً عن أراضيها، لذلك ركزت على تحقيق ذلك من خلال حلفاء لها في المنطقة، تقاسموا معها العداء لإسرائيل والولايات المتحدة، وكل لأسبابه الخاصة.

ومن الملاحظ أيضاً، أن إيران تحاول قلب المعادلة التي صقلتها الولايات المتحدة للمنطقة من خلال التحالفات والتطبيع، عندما عملت إيران على تطوير علاقاتها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع دول المنطقة، على رأسها جيرانها من دول الخليج.

وشهدت الساحة الدبلوماسية في المنطقة منذ العام ٢٠١٩ حراك تصالحي مهم ضمن ذلك الصعيد، وهو ما نشهده حالياً أيضاً خلال هذه الحرب، والحراك الدبلوماسي الإيراني، لإقناع دول المنطقة بعدم الانخراط في هذه الحرب، لصالح الأجندة الغربية.

ويبدو أن إسرائيل التي تريد أن تغير معادلات الشرق الأوسط، انسجاما مع المقاربة الأميركية التي تسعى للوصول لشرق أوسط جديد، قد تسببت من خلال سياستها وجرائمها في غزة ولبنان في قلب تلك النتائج، حيث يصعب على العرب قيادة وشعوباً القبول بتلك الجرائم والسياسات، ولعل ذلك يكون مقدمة لإعادة التفكير في التوازنات والتحالفات والمصالح لدول المنطقة بعيدا عن الولايات المتحدة حامية حمى إسرائيل، وشريكتها في تلك الجرائم. 

التعليقات (0)