بيسان عدوان تكتب: غزة في فخ الوصاية.. هل يعيد لابيد إنتاج الاستعمار بوجه جديد؟

profile
بيسان عدوان كاتبة فلسطينية
  • clock 26 فبراير 2025, 1:37:12 م
  • eye 99
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
غزة

عندما وقف يائير لابيد في واشنطن ليعرض خطته حول غزة، كان واضحًا أن إسرائيل لا تبحث عن حلول سياسية بقدر ما تحاول التخلص من مأزقها بأقل الخسائر. لا شيء جديدًا في الطرح، فقط محاولة لتدوير الاحتلال بوجه أكثر "قبولًا" دوليًا، وإلقاء عبء غزة على كاهل مصر مقابل إسقاط الديون. لكن الجوهر لم يتغير: لا اعتراف بالحقوق الفلسطينية، لا إنهاء للاحتلال، بل مجرد إعادة ترتيب الأوراق بما يخدم إسرائيل أولًا وأخيرًا.


خطة لابيد ليست سوى امتداد لمشاريع أمريكية وإسرائيلية سابقة، سواء "صفقة القرن" التي طرحها ترامب أو محاولات سابقة لفصل غزة عن القضية الفلسطينية الكبرى. الهدف واحد: إدارة الأزمة بدلًا من حلها، وإبقاء الفلسطينيين رهائن لمعادلات إقليمية ودولية تمنعهم من امتلاك قرارهم المستقل. لكن غزة بعد "طوفان الأقصى" ليست كما كانت من قبل، والمقاومة التي فرضت معادلة جديدة على الأرض لن تقبل أن تُحكم مجددًا بوصاية تحت لافتة "الإدارة المدنية".


ما وراء خطة لابيد: من "صفقة القرن" إلى "التدويل العربي"


منذ انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005، حاولت تل أبيب إدارة القطاع عن بُعد، عبر فرض حصار خانق ومنع أي شكل من أشكال التنمية أو الاستقلال السياسي. لكن الحروب المتكررة والمقاومة المتصاعدة جعلت هذا النموذج غير مستدام، ودفعت إسرائيل إلى البحث عن بدائل تحفظ لها "أمنها"، دون أن تضطر إلى العودة لاحتلال مباشر مكلف.


في هذا السياق، جاءت خطة لابيد كمحاولة لتطبيق نموذج "الإدارة بالوكالة"، حيث يتم إسناد مسؤولية غزة إلى مصر، مقابل مكافآت اقتصادية، أهمها إلغاء الديون الخارجية البالغة 155 مليار دولار. هذا الطرح لا يختلف كثيرًا عن "صفقة القرن"، التي سعت إلى تحويل القضية الفلسطينية من مسألة تحرر وطني إلى مجرد مشكلة معيشية يمكن حلها عبر المال والاستثمارات.


لكن هنا، تلعب مصر دورًا محوريًا في الخطة، إذ يتم تحميلها مسؤولية إعادة بناء القطاع وإدارته أمنيًا وسياسيًا، تحت رقابة إسرائيلية وأمريكية. عمليًا، هذا يعني إخراج الاحتلال من المعادلة سياسيًا، مع بقائه كقوة مسيطرة من الخلف، في تكرار لما حدث بعد "اتفاقيات أوسلو" التي منحت السلطة الفلسطينية دورًا إداريًا بينما احتفظت إسرائيل بالتحكم الفعلي في الأرض والموارد.

 


غزة تحت الوصاية بدلًا من التحرر


القراءة ما بعد الاستعمارية لهذه الخطة تكشف أنها ليست حلًا، بل استمرار لنهج استعماري قديم يعتمد على الإدارة غير المباشرة. فكما فعلت بريطانيا وفرنسا في مستعمراتهما السابقة، حيث أقامتا أنظمة تابعة تدير السكان وفق مصالحهما، تحاول إسرائيل نقل عبء السيطرة إلى مصر، مع الاحتفاظ بحق التدخل الأمني والعسكري متى شاءت.


لكن هذه الصيغة تعني أن غزة ستبقى تحت وصاية عربية-دولية، بدلاً من أن تكون جزءًا من مشروع وطني فلسطيني مستقل. وهذا يعيدنا إلى جوهر المشروع الصهيوني منذ تأسيسه: تفكيك الهوية الفلسطينية وتحويل الشعب الفلسطيني إلى مجرد سكان يحتاجون إلى إدارة، وليس شعبًا له حقوق سياسية مشروعة.


إن تحويل غزة إلى ملف إداري خاضع لسلطة عربية لن يكون سوى خطوة أخرى في تجريد الفلسطينيين من قرارهم المستقل، وتحويلهم إلى رهائن لمعادلات إقليمية ودولية، يتم التفاوض بشأنهم كما لو كانوا قضية لاجئين أو أزمة إنسانية، بدلًا من أن يكونوا أصحاب حق في أرضهم ووطنهم.


لماذا الآن؟ غزة والمعادلة الجديدة


ما يجعل طرح لابيد أكثر وضوحًا هو توقيته: إسرائيل تعيش واحدة من أكبر أزماتها السياسية والعسكرية بعد عملية "طوفان الأقصى"، والمقاومة نجحت في إسقاط النظريات الأمنية التي قامت عليها استراتيجية الاحتلال منذ 2005. لم يعد ممكنًا الحديث عن "احتواء غزة" أو "إدارتها عن بُعد"، لأن المقاومة فرضت نفسها كقوة فعلية على الأرض، وغيّرت قواعد الاشتباك بشكل جذري.


في ظل هذا المشهد، فإن خطة لابيد ليست مبادرة سياسية بقدر ما هي محاولة لإيجاد مخرج لإسرائيل من مأزقها الأمني، عبر إلقاء غزة في حضن مصر، وجعلها تتولى مسؤولية تفكيك المقاومة وإعادة "ضبط" القطاع وفق المقاييس الإسرائيلية. لكن إذا كان الاحتلال قد فشل في إخضاع غزة بكل ما يملكه من قوة عسكرية، فكيف يمكن لدولة عربية أن تنجح في ذلك دون أن تتحمل تبعات أمنية وسياسية خطيرة؟


الهدف الحقيقي لهذه الخطة ليس مساعدة مصر، بل استنزافها في معركة ليست معركتها، وجعلها في مواجهة مباشرة مع الشعب الفلسطيني. وهنا يكمن الفخ الأخطر: تحويل الصراع من فلسطيني-إسرائيلي إلى صراع فلسطيني-عربي، حيث تصبح القاهرة مسؤولة عن ضبط الأمن في غزة، وتتحول إلى وكيل إقليمي للمصالح الإسرائيلية دون أن تمتلك سيادة حقيقية على الأرض.
الرفض الفلسطيني والبديل الحقيقي: التحرر وليس الإدارة


لا يمكن لأي مشروع أن ينجح دون قبول الفلسطينيين أنفسهم، وهو ما تدركه إسرائيل جيدًا. وخطة لابيد، كغيرها من المشاريع المشبوهة، تفتقد لأي شرعية فلسطينية، لأنها ببساطة تتجاوز الأساس الحقيقي لأي حل مستدام: إنهاء الاحتلال، وليس إدارة تبعاته.


الفلسطينيون لم يطالبوا يومًا بأن يتم وضعهم تحت وصاية دولية أو عربية. المطلب الوحيد الواضح منذ عقود هو التحرر الكامل، وحق تقرير المصير دون تدخل خارجي. أي مشروع يتجاهل هذه الحقيقة محكوم بالفشل منذ اللحظة الأولى، لأن غزة ليست مجرد ملف أمني أو أزمة إنسانية، بل هي جزء لا يتجزأ من مشروع التحرير الفلسطيني، الذي لا يمكن فصله أو تقزيمه بحلول مؤقتة أو إدارات بديلة.


الحل الحقيقي لغزة ليس في "الإدارة العربية" أو في "إعادة الإعمار تحت إشراف دولي"، بل في رفع الحصار بشكل كامل، وإنهاء الاحتلال، والسماح للفلسطينيين بممارسة سيادتهم الفعلية على أرضهم دون وصاية أو شروط. أما ما تحاول إسرائيل الترويج له، سواء عبر لابيد أو عبر مشاريع سابقة، فهو مجرد إعادة تدوير للاحتلال بوسائل أكثر "نعومة"، لكنه يبقى في جوهره احتلالًا بكل معنى الكلمة.


لا سلام بدون حرية، ولا استقرار بدون مقاومة


إن ما تحاول إسرائيل فرضه اليوم ليس حلًا، بل إعادة صياغة للأزمة بما يحفظ مصالحها ويُبقي الفلسطينيين في حالة من التبعية الدائمة. لكن غزة التي حطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وفرضت واقعًا جديدًا على الأرض، لن تُحكم بوصاية جديدة، ولن تقبل بأن يتم تحويلها إلى ساحة تجارب للمشاريع الفاشلة.


في النهاية، لا يمكن بناء مستقبل فلسطيني حقيقي إلا على قاعدة واضحة: لا بديل عن التحرر، ولا استقرار تحت الاحتلال، والمقاومة ستظل الخيار الوحيد حتى استعادة الحقوق كاملة، دون التفاف أو حلول شكلية تخدم الاحتلال أكثر مما تخدم الشعب الفلسطيني.

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)