- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
د.أشرف الصباغ يكتب : "أتحاد خضرة المحشي" 1
د.أشرف الصباغ يكتب : "أتحاد خضرة المحشي" 1
- 10 يونيو 2021, 12:52:18 ص
- 945
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مبنى تاريخي- أثري فخم بأحد أشهر وأهم شوارع منطقة الزمالك الأرستقراطية التي تسكن بها الشريحة العليا من الطبقة الوسطى. كان أحد الڤلل المملوكة ربما لأحد باشوات ما قبل ثورة 1952. وربما كان مبنى ملحقا بأحد القصور. وبمجيء الثورة بنوا تحته مسجدا لكي يتحد العلم مع الإيمان مثلما اتحدت الاشتراكية مع الإسلام.
اسم المبنى ووظيفته لا علاقة مباشرة لهما لا بالمحشي ولا بخضرة المحشي، ولا حتى بأي من مكونات هذه الأكلة المصرية الفخمة التي يسن لها المصريون أسنانهم ويجوِّدون في صناعتها من حيث الخبرة والمهنية والتنويع على أصناف مختلفة من الخضروات مثل الكرنب والباذنجان بألوانه وأحجامه المختلفة والكوسة، إضافة إلى مكونات الخلطة من شبت وبقدونس وما أنعم الله به من خيرات على البشر الساجدين الراكعين وغيرهم، وبما جادت به الطبيعة من كرمها وفيئها على البشر العابرين والسابحين والمترجلين. المبنى ببساطة مرتبط بتسمية أخرى عجيبة يعمل أصحابها بالكتابة. ولذلك أطلقوا على المبنى "اتحاد الكتاب". وظل سنوات وعقود طويلة بهذا الاسم العجيب كتقليد يشبه تقاليد الاتحاد السوفيتي الذي زاوجنا من أجله بين الاشتراكية والإسلام فأنجب هذا المسخ مسخا جديدا اسمه العلم والإيمان. وبعد ذلك أضافوا كلمة نقابة ليصبح الاسم الرسمي "نقابة اتحاد الكتاب" التي تضم موظفين غريبي الأطوار يتحركون ويلفون ويدورون حول أنفسهم مثل شخصيات الكاتب الروسي فيدور دوستويفسكي في الأقبية والخرابات والأماكن المهجورة: تلك الكائنات الدوستويفسكية التي تعاني من الأمراض والغرائب والضلالات وتتحرك بطريقة معينة في أقبية منخفضة الأسقف وسيئة الإضاءة والتهوية، وربما السمعة أيضا. ومع ذلك لم تتغير طبيعة الاتحاد بعد أن أصبح نقابة، حيث ظل متمسكا بجوهره وكينونته الأصلية كمكان له علاقة بخضرة المحشي.
ألقت بي الظروف الخاصة باستلام كارنيه عضوية هذا الاتحاد، الذي أصبح نقابة، بين فكي هذا المبنى العجيب الذي تحول مع الزمن إلى مجرد طابق تحت أرضي يخجل الموظفون من تسميته بـ "البدروم" أو "القبو" الغارق في إضاءة خافتة ومرعبة تذكرنا ببيوت الأشباح في أفلام الرعب الأمريكية، وبالأقبية التي كان مكسيم جوركي يقوم بتصويرها في قصصه ورواياته من أجل حث البشر على النهوض من أجل تغيير حياتهم ومستقبلهم، ودفعهم للاحتجاج والثورة ضد احتقار الإنسان ودفنه حيا في أقبية أقرب إلى القبور. وكان الطابق الأرضي يرتفع عن الأرض بحوالي عشر درجات من سلم رخامي فخم واسع يطل مباشرة على شارع حسن صبري الذي يتحول بقدرة قادر بمجرد عبور شارع 26 يوليو إلى شارع البرازيل. بمجرد ارتقاء هذه الدرجات العشر وفي مواجهة المدخل تماما، يجلس رجل أمن، غالبا في سن الشباب، متكاسلا ومشغولا بشيء ما على الدوام. ولكن بمجرد دخول أي شخص، يدب فيه النشاط وتتحول ملامحه إلى كتلة من الإحساس بالأهمية والخطر وأداء دور قومي- وطني مزدوج، فيسأل عن هدف الزيارة، ثم يتأكد من بطاقة العضوية. وأحيانا يوجه بعض الأسئلة الإضافية من قبيل "مَنْ تريد" أو "ماذا تريد"، أو يقطع عليك الطريق بمعلومات لم تطلبها منه أو تسأله عنها من قبيل "الأستاذ عبد الفتاح مجاش" أو "الآنسة عواطف بتولد" أو "الكارنيهات ماجتش من أسبانيا" أو "الأستاذ فخري عنده برد". كانت كل تلك التفاصيل تضايق أعضاء اتحاد خضرة المحشي، الذي أصبح نقابة لخضرة المحشي، وتشعرهم بعدم أهميتهم أو في أحسن الأحوال بضآلتهم أمام شخص دخيل على مهنة الكتاية جاء ليعمل فرد أمن لحماية المبنى والأعضاء، وربما الوطن أيضا. فكيف يمكن أن يحيا الوطن ويستمر من دون مبنى كهذا، ومن دون اتحاد ونقابة، ومن دون أعضاء من الكتاب الشغوفين بالكتابة يفنون فيها أعمارهم وزهرة شبابهم. ولكن مثل هذا الإجراء الأمني كان قد تم استحداثه مع إجراءات كثيرة، من ضمنها كما قلنا إضافة كلمة "نقابة" ليصبح الاتحاد مثل نقابة التجاريين ونقابة عمال البناء ونقابة الصيادلة ونقابة الزبالين ونقابة الأطباء ونقابة المقرئين والدعاة ونقابة الفلاحين ونقابة العمال ونقابة عمال الكنافة والكسكسي. ومن ثم يكتسب حيثية تضيف بعض الأهمية إلى الكُتَّاب، وتضفي عليهم رونقا وبهاء بصرف النظر عما يكتبونه، وبصرف النظر عما إذا كانوا يكتبون أصلا.
في هذا اليوم دخلتُ إلى مبنى اتحاد خضرة المحشي، وأبرزتُ كارنيه الاتحاد القديم الذي يجب استبداله بالجديد، وأخبرت رجل الأمن الشاب الذي تبدو عليه علامات الأهمية والمهابة وكأنه يحرس البوابتين الشرقية والغربية للوطن في آن واحد، أو ربما كان يعتقد أنه الحارس الشخصي للرئيس. والمقصود هنا رئيس اتحاد خضرة المحشي وليس رئيس الدولة، لأن الحرس الخاص برئيس الدولة يجب أن يتحلى بصفات شخصية وجسمانية وعقلية خاصة جدا ويتميز بسمات متفردة من حيث الذكاء ومن حيث القدرة على السباحة والطيران واستخدام الأسلحة المختلفة وقيادة الطائرات والغواصات النووية وسفن الفضاء، والأهم من كل ذلك أن يلبس على الدوام نظارة سوداء.
كان الطابق الأرضي يضم العديد من الغرف، واحدة منها لنائب رئيس اتحاد خضرة المحشي، الذي أصبح نقابة، وهي أقل فخامة قليلا من غرفة الرئيس في الطابق الأعلى. والمقصود هنا هو رئيس اتحاد خضرة المحشي وليس رئيس الجمهورية، لأن الأخير عادة ما يسكن ويعيش ويعمل في قصر رئاسي أو في عدة قصور رئاسية مليئة بالغرف والمكاتب والحراس والأوراق والأقلام والكمبيوترات والمساعدين والخدم والحشم، وربما بالكاميرات والأسلحة والوسائل الخفية التي تكشف المؤامرات الداخلية والخارجية وتحمي الرئيس وتحافظ على حياض الوطن. وكانت هناك غرفة للمسؤول المالي، وبعض الغرف الأخرى للسكرتيرات الحسناوات، وللسعاة الذين يقومون بعدة وظائف مثل التنظيف وعمل الشاي والقهوة وشراء ساندوتشات الفول والفلافل والباذنجان للرئيس ولنائب الرئيس وبقية الموظفين الذين يعملون في القبو السفلي، ومعهم موظف جديد برتبة لواء يقوم بالإشراف على بعض الأمور من أجل ضبط العمل وإشاعة الانضباط في صفوف ليس فقط الموظفين والعمال في اتحاد خضرة المحشي، الذي أصبح نقابة، بل وأيضا في صفوف الكتاب والكاتبات والحفاظ على نظافة ورقي وصفاء مهنة الكتابة وقدسيتها وسموها. وكانت الغرفة الأكبر تقع في الطابق الأول الذي يعلو الطابق الأرضي. وكانت مخصصة لرئيس اتحاد خضرة المحشي، الذي أصبح نقابة، وضيوفه من الساسة وكبار الكتاب والمفكرين المقربين منه ومن عقول الدولة المجيدة. بل وأحيانا كان يستقبل بها نظراءه من الدول الأخرى ويُجري خلف أبوابها الموصدة المباحثات والمفاوضات من أجل الرقي بمهنة الكتابة المقدسة، ومن أجل رفعة ورونق وبهاء الكتاب والكاتبات. وأيضا من أجل الاتفاق على بيانات التأييد لرؤساء الأمة وزعمائها وملوكها وشيوخها وأمرائها، وشجب المؤامرات الخارجية التي يقوم بها أعداء الأمة ودولها المجيدة، وتعرض أمن الوطن وحياة الزعماء للخطر.
استقبلني نائب الرئيس والمسؤول المالي بعد أن أنهيت كل تفاصيل إجراءات الأمان مع موظف الأمن. كان كل منهما يزاملني في مرحلة سابقة من مراحل حياتي ربما في فترة ما بعد التخرج من الجامعة، حيث التقيتهما بالصدفة في أحد المراكز الثقافية التابعة لأحد المساجد الذي كان يضم أيضا مستوصفا ودارا لتحفيظ القرآن ومبنى صغيرا للدروس الخصوصية وتوزيع المصاحف على براعم الأمة. كانت هذه المراكز والمساجد ودور تحفيظ القرآن متناثرة كالفطر في جميع أنحاء مصر في حقبة الثمانينيات من القرن العشرين، وبالذات في الأحياء الشعبية والقرى والنجوع. لا أذكر بالضبط ماذا كنت أفعل في ذاك اليوم البعيد، فتعرفت إليهما، ونشأت بيننا علاقة طيبة واهتمام مشترك بالثقافة وتشاركنا في لقاءات ثقافية وندوات لإلقاء الشعر وقراءة القصص ومناقشة الأوضاع الثقافية. وبعد عام أو اثنين خفتت حماستنا، وانصرفتُ أنا إلى مقاهي وبارات وسط القاهرة وانخرطتُ في نشاطات ثقافية أخرى ذات طبيعة تختلف قليلا عن طبيعة الثقافة التي يتم تداولها في الوحدات الاجتماعية التي تضم المساجد والعيادات الطبية وفصول تحفيظ القرآن وقاعات عقد القران المزينة بآيات الذكر الحكيم، بينما فضَّل الزميلان البقاء مع القواعد الشعبية وفي قلب الكتلة الصلبة للوطن العظيم، وتمسَّكا بالتزامهما بالعهد وحرصهما على تنشئة براعم الأمة في ظل دولة العلم والإيمان والالتزام الأخلاقي والانضباط الثقافي والفكري.
جلسنا نتحدث بشوق واشتياق وشغف. ضغط نائب الرئيس على ذر أحمر فوق مكتبه. وبعد قليل جاء أحد السعاة فأمره السيد نائب الرئيس بأن يأتينا بثلاثة أكواب من الشاي، ثم يأتينا بعد ساعة بثلاثة فناجين من القهوة، وألا ينسى المياه المعدنية. فأضاف المسؤول المالي موجها حديثه للساعي بأن يأتي بثلاثة أكواب عرقسوس أولا احتفاء بي لأنه لم يتشرف بلقائي منذ أكثر من ثلاثين أو خمسة وثلاثين عاما. ولما قال الساعي إن بائع العرقسوس لم يمر بعد على الاتحاد الذي أصبح نقابة، بادره نائب الرئيس مقاطعا: "صب لنا ثلاثة خروب من البرطمان الذي أرسلته المدام امبارح".
طال الحديث، ولم يأت الساعي بأي شيء. وفجأة دخلت سيدة أربعينية محترمة، تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة الدنيا كما تشير ملابسها المحافظة والبالطو الكاكي والإيشارب الذي يميل إلى الحجاب أكثر منه إلى إيشاربات أمهاتنا وجداتنا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. تبادلتْ السيدة معهما التحية والسلام والمصافحة وبعض الكلمات اللطيفة والإيفيهات التي تشير إلى علاقات وطيدة وقديمة وهزار ومزاح وبعض الغمزات واللمزات التي تحمل أكثر من معنى ولكنها لا تصرِّح بأي معنى.
جلستْ السيدة غير راضية، تطلق زفيرا حادا، ودلالا مستترا، وتتعامل مع حقيبة يدها بعصبية ونزق طفولي، وتُحَرِّك بعض الكتب الرخيصة التافهة الموضوعة على طاولة خشبية متهالكة بنية اللون في وسط الغرفة، ناظرة أمامها بقرف واستعلاء. طلبَ لها نائب الرئيس قهوة سكر مزبوط، فقالت له إنها أقلعت عن احتساء القهوة. نطقت كلمة احتساء بالتركيز على حرفي الحاء والسين وكأنها تنبهه إلى شفرة معينة بينهما، ودعته لتغييرها إلى يانسون سكر زيادة. وفجأة قالت بصوت عال ينطوي على لهجة وعيد وتهديد ونبرة عنف واضحة مع بعض الدلال وتسبيل الرموش: "هو أنا دوري ماجاش بقى عشان حاجاتي تترجم للإنجليزي والفرنساوي؟! هو أنا إمتى هابقى من صحابكم وحبايبكم اللي بتحطوهم في اللجان وتبعتوا حاجاتهم التافهة تترجم، وتدوهم جوايز كمان"!"..
يتبع.....2