- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
د.أشرف الصباغ يكتب : القمة الروسية الأمريكية
د.أشرف الصباغ يكتب : القمة الروسية الأمريكية
- 18 يونيو 2021, 3:54:10 م
- 1487
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مسألة فشل أو نجاح القمة الروسية- الأمريكية في جنيف تتوقف على زاوية النظر، وعلى التوقعات. فمن كان يتوقع حلولا سريعة أو قرارات حاسمة، لا بد وأن يصاب بالإحباط ويشعر بفشل القمة. ومن كان أكثر واقعية، وكانت توقعاته دقيقة ومبنية على معطيات حقيقية، سيدرك أن نتائج القمة طبيعية للغاية، ويكفي أن الرئيسين التقيا وجها لوجه من دون إبداء خشونة في التعامل، لأن اللقاء تم في ظروف سيئة للغاية بين البلدين وعلى أنقاض علاقات متردية طوال حوالي عشر سنوات.
الرئيس بايدن استبق لقاء القمة مع بوتين بتوحيد الصفوف مع الحلفاء الأوروبيين، واطمأنت الأطراف الغربية إلى بعضها البعض واستعادت الثقة عبر ثلاثة لقاءات مهمة هي لقاء السبع الكبار، ولقاء الولايات المتحدة وحلف الناتو، ولقاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبالتالي، كانت واشنطن هي الأكثير ثقة، حيث سدت العديد من الثقوب التي كانت روسيا تدخل من خلالها. أي قلصت التناقضات بين واشنطن وبروكسل وهي التناقضات التي كانت تستثمرها موسكو جيدا.
تم الاتفاق على عودة السفيرين، ولكن لن يحدث ذلك غدا أو بعد غد، لأن مياه كثيرة جرت أثناء غيابهما، وهناك مبني وقنصليات أغلقت، وتم تبادل طرد عشرات الدبلوماسيين. قد يحدث ذلك خلال الأسبوع المقبل مثلا. وأعتقد أن هذه هي النتيجة الوحيدة الملموسة التي خرجت بها قمة بوتين وبايدن.
أصدر الرئيسان إعلانا مشتركا بشأن إمكانية إطلاق حوار شامل حول الاستقرار الاستراتيجي، ما يعني أن الأمور لن تتحسن في هذا الملف بعد شهر أو سنة، ولن تبدأ من حيث توقفت، وإنما ستكون هناك تعديلات جوهرية في هذا الملف المهم. فهناك اتفاقيات مهمة أُلْغيَت. وحتى الاتفاقية الوحيدة الباقية باسم ستارت ثلاثة لم تمدد بشكل طبيعي وإنما تم تمديها إلى خمس سنوات وهي نصف المدة، ربما تمهيدا لإلغائها أو إدخال تعديلات عليها. وفي الحقيقة، فالولايات المتحدة إن عاجلا أو آجلا ستجري مباحثات حول اتفاقيات التوازن الاستراتيجي والصاروخي والنووي ولكن بعد أن تملي شروطها المرتبطة تحديدا ليس فقط بروسيا، بل وبالصين أيضا.
النقطة الثالثة، هي الاتفاق على تشكيل لجان تفاهم بشأن الجرائم السيبرانية. ولكن يبدو أن الطريق سيكون طويلا في هذا الصدد، لأن روسيا تنفي وتنكر كل شيء، بينما الولايات المتحدة توجه اتهامات وتتعامل بصرامة، وربما بانتقام في ملف الأمن السيبراني. وفي الحقيقة، فالرئيس بايدن في مؤتمره الصحفي هدد بقوة في هذا الملف. وقال إنه أخبر نظيره الروسي بأن الولايات المتحدة تمتلك أدوات قوية في هذا المجال، وستكون مضطرة لاستخدامها في حال تكرار الجرائم السيبرانية. هذا إنذار خطير يدخل العالم في حرب أخطر وأقوى من الحروب النووية نفسها.
هذه هي النقاط الثلاثة التي يمكن الحديث عنها بإيجابية على الرغم من أن تطبيع الأمور فيها سيحتاج إلى وقت ليس بالقليل. وقد لا يحدث أي تطبيع في العلاقات، نظرا لأن كل طرف يجهز نفسه لدخول منظومة عالمية جديدة تحتاج لامتلاك العديد من الملفات والأدوات وأوراق المساومة والضغط. وفي الحقيقة لا روسيا ولا الصين لديهما الإمكانيات الكافية لدخول هذه المنظومة العالمية الجديدة على قدر المساواة مع الغرب إلا بامتلاك أسلحة، وأسلحة فقط، وأوراق ضغط سيبرانية، وأوراق أمنية أخرى للابتزاز السياسي والاقتصادي. وهذا ما يجري على أرض الواقع الآن، وقد يتسبب في احتكاكات غير محمودة العواقب.
هناك ملفات أخرى مثل ملف أفغانستان وإيران وسوريا وليبيا. وفي الحقيقة، روسيا اقترحت على الولايات المتحدة تقديم خدمات معينة في هذه الملفات الأربعة، على اعتبار أنها تمتلك مساحة حركة لا بأس بها في هذه القضايا. وبالطبع فهذه الخدمات ليست بدون ثمن. وأعتقد أن واشنطن ستقبل بخدمات موسكو في أفغانستان فقط. أما إيران فستكون ملفا أوروبيا أمريكيا حصرا، بعيدا عن علاقات موسكو وطهران، لأن أحد أهداف واشنطن هو تفكيك العلاقة بين روسيا وإيران إن عاجلا أو آجلا. ومع ذلك فهناك توافق ضمني بين موسكو وواشنطن على عدم امتلاك طهران أسلحة نووية. وقد أشار بايدن إلى هذا الأمر. بل قال إنه اتفق مع بوتين على ذلك. وهناك أصوات روسية كثيرة في الداخل تحذر من امتلاك إيران لأي أسلحة فائقة، لأن هذا يهدد أمن روسيا وحدائقها الخلفية في آسيا الوسطى. وقد يضع طهران منافسا لموسكو في ملفات عديدة في المستقبل. أي أن واشنطن تستخدم موسكو كرادع لطهران في ملفات كثيرة. وهذا يحدث بدون اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة، لأن هناك ملفات عليها اتفاق ضمني بين البلدين، وتخدم مصالحهما من دون الاتفاق عليها.
في الواقع، روسيا ترى أنها تمتلك أوراقا قوية وقابلة للمساومة في كل من سوريا وليبيا. ولذلك فهي تناور بها مع الولايات المتحدة. ولكن الأخيرة لا تعنيها هذه الأوراق، لأنها تتصرف وفق مصالحها وبناء على ما تمتلكه من أوراق قوية، وأيضا إلى جانب حلفائها الأوروبيين من جهة، وحلفائها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من جهة أخرى. وأعتقد أن روسيا تبالغ كثيرا فيما تتصور أنه أوراق تمتلكها في ليبيا تحديدا، أو حتى في الشرق الأوسط كله. أما في سوريا بالذات، فكل طرف يتصرف وفق مصالحه، سواء كانت روسيا أو تركيا أو إيران أو الولايات المتحدة أو التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب. وإلى الآن، لا تتواجد روسيا إلا في سوريا فقط. وهي متواجدة فيها أصلا حتى من قبل بوتين ومن قبل بشار الأسد. أي لا توجد مكاسب ملموسة لروسيا في الشرق الأوسط إلا في وسائل الإعلام ولدى المحللين السياسيين التابعين لموسكو التي يعتقدون أنها موسكو السوفيتية.
هنا نأتي إلى موضوعات أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وبلاروس وموضوع الحريات في روسيا، وهي الموضوعات المعقدة للغاية، والتي تدخل ضمن الخطوط الحمراء الروسية. وفي الواقع، لم يحدث أي تحريك أو اختراق لهذه الملفات. لكن روسيا تهدد على الدوام وتتوعد الغرب وأوكرانيا في حال انضمام الأخيرة إلى حلف الناتو، على الرغم من أن لا أحد قرر ضم أوكرانيا للحلف. ومن الواضح أن موسكو تفتعل أحداثا وتتوهم أشياء من أجل الاستهلاك الداخلي. فلا أوكرانيا ولا جورجيا ستنضمان إلى حلف الناتو على الأقل خلال السنوات العشر المقبلة لأسباب كثيرة منها ما يخص البلدين وأوضاعهما الداخلية والإقليمية، ومنها ما يتعلق بميثاق الناتو نفسه وبهيكليته ومهامه في الفترة المقبلة التي تسبق ظهور ملامح النظام العالمي الجديد.
جرى الحديث عن القطب الشمالي الذي تترأس روسيا هذا العام المنتدى الخاص به والذي يضم ثماني دول. وهناك خلافات شديدة على تقاسم الثروات، وعلى التسليح ونشر القواعد العسكرية والرادارات الضخمة الحديثة والغواصات النووية، وتطوير البنى التحتية. هناك خلافات شديدة الوطأة يمكن أن تتحول إلى مواجهات معلنة إذا سارات الأمور بالوتيرة التي تسير عليها الآن.
في نهاية المطاف، قدم الرئيس الأمريكي جو بايدن لبوتين هدية لا يحلم بها أحد في الكرملين، ألا وهو أنه أخرجه من عزلته وأجرى معه لقاء قمة وجعل العالم يستمع إلى تصريحاته ومبرراته. هذه الهدية مهمة للغاية، لأن الرئيس بوتين عاد إلى بلاده ليعلن انتصاره أمام شعبه، وليؤكد أنه رفض الكثير من عروض ومقترحات الغرب المعادية للمصالح الروسية وللأمن القومي الروسي. لقد حصل بوتين على هذه الفرصة الجيدة ليخرج من عزلته. بينما عادت الولايات المتحدة إلى محيطها العالمي بقوة ثلاثية مهمة عن طريق اللقاءات ضمن مجموعة السبعة الكبار، ومع الاتحاد الأوروبي، وضمن حلف الناتو الذي تقوده واشنطن. هذه العودة القوية أربكت الكثير من حسابات روسيا والصين من جهة، وحسابات تركيا من جهة أخرى، وحسابات بعض زعامات دول الشرق الأوسط من جهة ثالثة، إذ كانت كل الأطراف السابقة تعول على استثمار التناقضات بين واشنطن وبروكسل، وبين واشنطن وحلف الناتو.